26 أكتوبر 2009

إليها,,,

يقال إنه كلما اشتدت قتامة انطباعات الاستمرار في الحياة...يجدر بالإنسان أن يشهد بالنقاء لأولئك الرائعين الذين تركوا ذكراهم ناصعة في تاريخه الشخصي...فالانسان في المحصلة ذكرى عليه أن يسعى جاهدا لتجميل ذكراه و الرهان مفتوح على ناظريه إلى أن يغدو روحا بلا جسد...

هكذا كانت قرائتي لسطور عتيقة التصقت قسرا بقطعة ورق عثرت عليها صدفة في أحد جيوب معطفي...مع أنها اختارت وجهة الانسانية الفسيحة...فقد كنت حاضرة فيها إذ كلما استغرقت في القراءة يرتسم وجهك في الورقة...إنها أنت..و دائما أنت...ابتسامتك نشرت أريجها في كل مكان..هل أخبرتك أنني حارس ابتسامتك؟

كلما تذكرت بداياتنا امتلأ خيالي بالعديد من التساؤلات المتلاطمة...أبحث بين طياتها عني و عنك و أجدني بعد رحلة طويلة أمام المرآة أتفحص محتويات ذاتي...يروقني أن تدركي أنني لا أعثر على نفسي إلا بين أنفاسك...يجتذبني الإبحار الهادىء حينا..الصاخب حينا...في ثنايا شكوكك..ثوراتك...حنانك المتدفق

دعيني أكن أكثر شفافية في ممارسة حق الانتماء إليك...فقد سمحت لقلبي بالتجول في حديقة حبك، مغلفا برغبة جامحة لاستكشافك و اعادة استكشافك..هل أخبرتك أن عذريتك تتجدد؟...

على وريقات كل زهرة حرف من اسمك...و كلما وصلت إلى الحرف الأخير تنفذ الوريقات...و سرعان ما لفت انتباهي أن كل الأزهار تقدم لي حروف اسمك على وريقاتها...غير أن ألوانها كانت مختلفة...يبدو أنني أتنزه بين أروقة مزاجك...و هذا الشيء الذي لا يتوقف عن الحركة و الذي أسماه العرف الزمن أخبرني أن اللحظات تتنافس كي تحتضن لقاءنا...لما لا نحزن الأحزان اذن؟

لا تأكلي الشمس...فما في حوزتي سوى كلمات و زهرة ...هي لك

22 سبتمبر 2009

تطبيقات نظرية الألعاب في السياسة الدولية

تشوب الكثير من المفارقات الجلية التحليل السياسي ( و التاريخي ) الذي يقول بخمود الحرب الباردة و ظهور عصر التكتلات الاقليمية. سباق التسلح و تبادل المماحكات السياسية عبر مناطق متفرقة خاصيتان مرافقتان لأي صراع أو خلاف في الرأي بين كيانين أو مجموعة كيانات جيوسياسية كي يأخذ صفة : الصراع البارد ضمن مدلولها التاريخي. هذا التعريف المكثف لا يعني أن الصراع البارد يتعارض مع الاحتكاك المسلح، بل إن الحل العسكري ينتمي لمفهوم الصراع ( الحرب) البارد عندما يستجيب لشرطين أساسيين :

** الهدف منه هو استعراض الاستطاعات العسكرية.
** أن يكون صراعا منقولا لإحدى ساحات صراع النفوذ و اصطدام المصالح.

السبب الرئيسي في اندلاع الحروب الباردة هو الافتقار لمعلومات دقيقة عن القدرات العسكرية لدى الخصم المحتمل، إذ أن الجهاز العسكري من الصعب إذا لم يكن مستحيلا أن تخترقه الأذرع الاستخبارية لدول خارجية ترتقب منها عمليات عدائية.

تجلت هذه الملاحظات في قضية نشر دروع صاروخية متعاكسة بين روسيا و الولايات المتحدة، فبعد اجماع الغرب على انتزاع استقلال اقليم كوسوفو من صربيا الممالئة لروسيا و هو الاجراء المباغت الذي ألحق ضررا بالغا بالسمعة الدولية لروسيا بادرت على إثره إلى انتزاع استقلال أبخازيا و أوسيتيا من جورجيا الموالية لحلف الناتو. أدركت القوى الأورو-أمريكية بعد هذا التصرف أن مسألة استدماج روسيا داخل حلف الناتو تعرضت لنكسة غائرة، لتنضاف هذه الخطوة الخاطئة إلى مسار الخطوات الخاطئة التي تزعمتها الادارة الأمريكية السابقة و التي أعلنت مشروع مكافحة الارهاب و دشنته بغزو العراق و أفغانستان دون ايلاء أي اهتمام للرؤية الصينية و الروسية التي تبنت النهج التوريطي كردة فعل على مشروع مكافحة الارهاب الذي لم تشارك في رسم ملامحه الرئيسية. فبينما تبذل واشنطن كل جهودها لزرع ولاء سياسي تمهيدا للاستغلال الاقتصادي لها في العديد من المناطق الملتهبة ( السودان، الصومال، العراق…الخ) يستخدم التوافق الكونفوشيوسي / الروسي الأسلوب الاقتصادي إذ أن كلا من الصين و روسيا وقعت سلسلة اتفاقات في قطاعات الفلاحة و الطاقة مع نفس الدول التي تحاول الولايات المتحدة اجبارها على القبول بالتبعية السياسية.

لقد اعتقد المحافظون الجدد أن شراء الحياد السياسي الكونفوشيوسي / الروسي بواسطة الاقتصاد سيعجل بانخراطه في الفعل العسكري داخل العراق و أفغانستان تحديدا، غير أن سقف النتائج بدا مخيبا لتطلعات الناتو، فروسيا وافقت على تخصيص أراضيها لتمرير مساندات انسانية فقط لحلف الناتو الغارق في ورطة أفغانستان أما الصين فقد خفضت من حجم المساندة الأورو-أمريكية للتيبت و تايوان، و يظهر هذا جليا في التغير السريع للموقف الفرنسي من قضية التبت و حرمان التايوانيين الدالاي لاما من الإدلاء بأي أفكار سياسية ضمن زيارته التي قام بها مؤخرا للمنطقة.

أ لا يجدر بنا أن نتساءل عند هذا المستوى من التحليل : ما هي المكاسب التي حققتها الإدارة الأمريكية؟

تظهر في مقدمة المكاسب عملية بناء التوازن بين الشيعة و السنة و نقل الصراعات الدموية إلى الداخل الاسلامي ضمن خطة اختطاف الاسلام التي أعقبت هجمات شتنبر 2003. في هذه الجزئية استشرى اعتقاد لدى عينة واسعة من الباحثين و الملاحظين مفاده أن الغرب استبدل العداء الأحمر بالعداء الاسلامي، هذا الفريق من الباحثين يقع في تناقض وخيم حين يدافع بشراسة عن مصداقية نظرية صراع الحضارات من جهة و يقول بانتهاء العداء الشيوعي / الرأسمالي من جهة أخرى. تشكل أضلاع نظرية صراع الحضارات لا يتحقق بطريقة عبثية أو تطورية ( كما هو الشأن في الثورات أو الفورات الاجتماعية بتعبير أكثر دقة). لقد بات جليا أن الإدارة الأمريكية السابقة أعادت المشهد السياسي الدولي فترات طويلة إلى الوراء و خصوصا إلى فترة الصراع بين الشرق و الغرب و ظهور نقاط ممارسة الضغط في أمريكا اللاتينية و في كوريا الشمالية و بناء تحالفات اقليمية تخضع للتسيير ثنائي القطبية ( مشروع التعاون الاستراتيجي التركي السوري الايراني و لو أن هدف تركيا من هذا المشروع هو انتشال سوريا من التبعية التامة لايران و محاولة اعادتها إلى المحيط العربي الرسمي استنادا إلى علاقات أنقرة الوثيقة مع أمريكا و اسرائيل و دول مجلس التعاون الخليجي و مصر…الخ) تماما مثلما كان عليه الوضع الدولي في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

الرئيس الأمريكي الجديد استوعب جيدا جسامة الارث الذي خلفه له سلفه، فبادر إلى اطلاق اصلاحات مالية تمزج بين النظرتين الشيوعية و الاسلامية، كما ألغى خطة نشر الدرع الصاروخي في الأراضي المتاخمة لروسيا و التي تشكل عمق نفوذها الاستراتيجي و أعلن إعلاميا أن الباب مفتوح لالتحاق روسيا بحلف الناتو كمحاولة لاقصاء الصين تجلت أبسط مظاهرها في الرسوم الجمركية الاستثنائية التي فرضت على دخول البضائع الصينية إلى الولايات المتحدة.

لقد أنجبت الفكرية السياسية الأمريكية نظرية الفوضى الخلاقة و كانت أول و أبرز مساهم في تطبيقها…فهل من المنطقي أن نتوقع العكس بخصوص نظرية صراع الحضارات؟؟؟

30 أغسطس 2009

إلى صديقة لم أعد أتذكر ملامحها

التقينا على الطريقة الربيعية، ابتسمت الطبيعة و أنشدت احتفاء باللقاء، لم يكن أريج الصدفة إلا حسنة من حسنات الفصل المبتهج، لا قيمة في شعوري لتحضيرات اللقاء، كل ما أستطيع قوله إن الله أتقن الإعداد لذلك اليوم البعيد. طفقت أتفحص وجه الملكة ماري أنتوانيت في إحدى كتب التاريخ العتيقة، فأوحى إلى المشهد باسم:" لطيفة"، هذا ما ترسخ في الذاكرة، اسم بلا جسد، لكنه روح من النقاء و الإنسية تحلق بسعادة في خيالي الشاسع. أحاول لملمة كل الأوصاف المقتبسة من روعة الاعتناق المؤقت للماضي المسرور، غير أن الصورة الأخيرة، اسم يهمس بكل الإحتمالات، ما أروع أن يسافر الإنسان إلى غياهب الأيام الخوالي، لن تزعجه قتامة الواقع، لكن الأهم من التجوال المطلق رفقة العقل، فهو وحده من يركب الإحساس و يوقد الحنين بل و يسترجع الجمال المفقود.

تفاصيل اللقاء تلاشت، وما ظل صامدا علاقة انسانية صافية تأبى النهاية، في كل قطرة لامعة من قطرات فؤادين مزجهما القدر، تنبثق إرادة البقاء وعزيمة الإستمرار. اختارت صحبتنا المدرسة، و فدت الشمل بالنفيس طيلة ست سنوات متواصلة، تخللها اكتشاف الإنتماء و بناء الهوية واللمس الطفولي لمعاني الإستقرار و الإطمئنان التي استشرى في كل موقع من المجتمع أنها مهام مخصصة للكبار فقط، تقييم فاشل، فكأن الصغار لا يمتلكون الوعي الكافي لفهم مصطلحات الإجتماع البشري المستمدة من التطبيق اليومي، و على كل حال فإنني أعتقد أن لطيفة كانت صادقة و مصيبة في رأيها،:" نحن الدليل الحي على نجاح الاستقرار، فلماذا يصرون على القول بعجزنا عن استيعابه".

هكذا يرتسم فحوى كلامها في ذاكرتي، و ربما قد أكون أنا القائل. اجتماعات التأمل في الحياة كانت كثيرة ، فقد ارتشفنا رونق نسيان موعد التعارف البسيط ، منذ الأيام الأولى . هي من يؤكد لي أن سرعة النسيان مقياس لتوقع مصير العلاقة الإنسانية، وخاصة نسيان وقت التعارف، وبالإضافة إلى إشارته الواضحة لتقدم العلاقة، فإنه يتحكم في اكتمالها أو اخفاقها. لنا رؤيتان بريئتان ألفت بينهما أفكار مشتركة ، فقد بدأ الله و الكون بالدخول إلى امتداد التساؤلات. رغبة الإدراك لا يحتكرها الإكتساب العلمي، بل إنه قد يساهم في وأدها أو إجهاض تطورها في أفضل انجازاته. كما سيطر على تفكيري مبكرا، انبرت لطيفة للنضال ، رفضت لقب : " المتعلمين " بانطوائه المتعمد على انتقاص جسيم من كرامة الإنسان، وقاومت شيوع الإكتساب : " لسنا أكياسا بلاستيكية يستعملها الزبائن لمدد زمنية قصيرة، ثم يلقون بها إلى سلة المهملات أو يوجهونها لإعادة التصنيع "

السؤال الذي لا يزال يراودني : هل كانت تسعى إلى عالم مثالي يرتكز على صحة سلوك الفرد؟ قد أبالغ، و ربما تكون انطباعاتي متولدة عن التحاقي القسري بالكبار.

لحظة حميمية استوطنت ذاكرتي، مجرد قبلة، لا أدري متى حدثت، لكن المهم أنها حدثت. من عاداتنا الخالدة الإجتهاد في شرح الأحداث المؤلمة، أما ما نعتبره خيرا فإننا نكتفي و يجدر بناأن نستمتع به قبل أن ينفذ. هذا ما نستطيع أن نعامل به البهجة، الإستمتاع بها، خاصة و أننا في أغلب الأحيان لا نتحكم فيها، فلطالما ارتبطت بالصدفة. كأي باحث مبتدىء في متاهة الحب المثيرة، حلمت بقبل أخرى، و لم أتصور للحظة أن رصيدي سيجمد عند قبلتين: الفاتحة التي نقشتها بأحرف وامضة ساقية الماء قرب مكتب المديرة في المدرسة، و قبلة النهاية التي أقرها رحيل لطيفة مع أسرتها إلى مدينة أخرى. لدى استلامي للخبر، لم أتفاجأ، لكنني حاولت ابداء رفض أباده اصرار والدها على تسجيلها في إعدادية راقية، تفضل الصيت الرديء لإعدادية مدينتنا المكفهرة.

أتذكر أنها زارت منزلنا للمرة الأخيرة، و علمت من خلال شقيقي أننا شاركت في رحلة مع جماعة من الأصدقاء إلى الحقول المتاخمة للوسط الحضري. غادرت بهو المنزل بسرعة، لنلتقي أمام بوابة المدرسة… ورحلت.

يصعب علي أن أرسم ملامحها، بيد أن هذا الإخفاق المتقادم يخسر دوما أمام اقتناع شخصي بأن لطيفة كانت فتاة استثنائية.

28 أغسطس 2009

قطيفتان من جنائن فكتور هوجو


قصيدة : " إلى التي بقيت في فرنسا " لفكتور هوجو من إحدى روائع الأدب الفرنسي الكلاسيكي، و قد ترجمتها الى العربية كي تحظى بشيء من رؤى الهمسات الشرقية :

إلى التي بقيت في فرنسا

كوني أنت، ارفعي عينيك، أزيحي
هذا الرداء الجلدي الذي نقش التواءات شاحبة على جبهتك الملائكية
افتحي يديك، خذي هذا الكتاب، إنه لك.

هذا الكتاب المهجور الذي اعتقل روحي، كآبتي، أملي، حزني، خوفي
هذا الكتاب الذي يتضمن طيف حياتي،
هواجسي، انطباعات لحظة الغسق و هي ترتدي عبرات جافة،
الظل و عاصفته، الوردة و مدقتها،
هذا الكتاب بلون زرقة السماء، كئيب، من أين جاء؟
من أين جاء هذا الشحوب الذي يمزق الضباب؟
سنوات أربع خلت و أنا أسكن زوابع فناجين آخر المساء
هذا الكتاب لفظها كثيرا. كانت السماء مغرمة بلعبة الاملاء البارد
و أنا أكتب...أكتب فحسب.
لأنني قشة في مهب الريح. ارحل قالت الروح. و رحلت.
و عندما يتوقف نزيف يراع صفحاته، عندما يستعذب هذا الكتاب
أهزوجة الأمزجة الناعمة، عندما يطلق شهقته الأولى، عندما يحيا
كنيسة أخفتها المروج تدق جرس العبادة كلما تلاشى وجودي همست :
للخريف أوراق كثيرة ليسقطها..فأعطه بعض الوقت،
لقد صمت كتابك
سلمه لي بسلام...أيها الشاعر
البحر و قد رأى الكتاب يرتجف أردف بسرع : لماذا
لا تلقيه إلي...أ ليس شراعا متمردا؟
بل لي ينتمي هذا النشيد... قال النجم.
لمن تدخره؟ لصراعات الموقف عند هؤلاء الأحياء التائهين؟
امنحه لنا...نخبئه في أعشاشنا...نحمله على أجنحتنا...
قالت عصافير الكناري

قبل ردح من الدهر، و كلما عاد أيلول و زفرات الدمع تخنقه رويدا رويدا
أسافر كثيرا، أهجر كل ما يعرفني
أهرب من التحدي، أرى باريس تنطفىء
لن تأخذه الكنيسة...لا البحر و لا النجم و لا العصافير
هذا الكتاب لك...لك فقط.

تعليق :

لا يحتاج العاشق إلى انجاز زيارات تأملية لمرايا الطبيعة كي يثبت للآخر نظرة التكامل في الحياة. ضرورة التقاط شهادات الوجود حول صدق الحب تنتمي الى النطاق السوسيولوجي البحت، أما الحب فهو ذات واحدة لها انقسامات في المعنى و الجسد.

-------------------------------

في إحدى لحظات النشوة، و بعد أن جفف انطباعات الابحار عبر عوالم الأدب الفرنسي قال فكتور :

" أنا من ألبس الأدب الفرنسي قبعته الحمراء (أي قبعة الجمال في الثقافة الفرنسية)".

قصيدة : " غدا...منذ الفجر" رثاء كتبه فكتور لابنته ليوبولدين و التي ماتت غرقا بمحاذاة صخب الوجود.

و قد قمت بترجمتها إلى العربية :

غدا... منذ الفجر.

غدا...منذ الفجر..لدى التحاف القرية للبياض
سأنطلق، لأراك، أعرف أنك بانتظاري
سأمشي عبر الغابة، عبر الجبل
لم يعد باستطاعتي أن أكون بعيدا عنك

سأسير و عيناي مركزتان على أفكاري..
بلا سهو، بلا انصات لأي ضجيج..
وحيدا..مجهولا..مثني الظهر..متشابك اليدين
حزينا...النهار في رؤياي كالليل.

لن أتابع هطول المجيء المذهب للمساء
و لا مراكب البحر و هي تتساقط على هارفلور (1)
و عندما أصل، سأضع على قبرك..
باقة من البهشية الخضراء و الخلنج المورد (2)

(1) هارفلور : ميناء فرنسي.
(2) البهشية و الخلنج : نوع النبات الذي يكرم به الغربيون موتاهم.

21 أغسطس 2009

يوم آخر (قصة قصيرة)

اختار رصيف الانتظار بعد أن أنفق ساعات مرهقة قبل الحصول على تذكرة سفر إلى مكناس. الرطوبة و ارتفاع درجة الحرارة يضفيان قسوة رهيبة على جو العاصمة، الناس يلتجئون إلى المقاهي و المنتزهات حيث تخفف الظلال من شدة القيظ. ارتطمت هذه الأفكار المستمدة من أعماق المعتاد اليومي بذهنه و هو يتابع بتؤدة نشاط المسافرين، لكل واحد منهم وجهة محددة، لا يأتون إلى محطة القطار دون ادراك القصد من رحلة عبر آلات عتيقة. انتقادات الواقع لا تنتهي و لن تنتهي، بلا مشكلات متكدسة، فإن الواقع يفقد نكهته الخاصة، لا مناص من الاحتكاك بتحديات التعلق بالحياة.

المعلومات المسجلة بالتذكرة تشير إلى موعد انطلاق الرحلة، خمس ساعات صيفية أخرى للاستهلاك، و قد تنضاف إليها لحظات عسيرة، أصدقاؤه سردوا له الكثير عن مأساة مستخدمي القطارات، التنقلات البشرية المستمرة خلال العطلة تخنق النقل، في مثل هذه الأوقات العصيبة من السنة تخضع المواطنة لامتحانات عسيرة، بل إنها تتخلص من أدنى معانيها الآسرة، و على النقيض من الانطباع الشائع الذي ينشىء التناقض بين المثال و الواقع زمن الزخم المدني، فإن دائرة الأفكار المثالية تتسع، إذ يغدو الحصول على مقعد محترم داخل باص أو قطار متهالكين حلما بعيد المنال. بين اللحظة و اللحظة تتأجج حرب كلامية و أحيانا عنيفة بين المسافرين، هذا يزعم أن المقعد له و الآخر يؤكد أنه الأولى به…يتدخل ممثل الشرطة محاولا إصلاح الأخطاء المتكررة التي يرتكبها موظفو شبابيك بيع التذاكر، رغم الإملاءات الإدارية الواضحة بشأن تنظيم أرقام المقاعد تفاديا لصراعات زائدة، فلا يكاد ينتهي يوم واحد دون معاينة شجارات من نفس النوع. كان سليم يوزع نظراته الباهتة التي يتطاير منها سأم الإنتظار على مختلف المشاهد المؤذية التي تغص بها المحطة..فجأة جلس إلى جانبه رجل حفرت السنون أخاديد على وجهه ذي السحنة الكالحة، بادره بالقول بحنق :

- لا أفهم هذه الصراعات الهوجاء حول المقاعد، الأساسي في القضية بأكملها أن القطار اللعين سيتحرك، كلهم سيصلون إلى وجهاتهم سواء ركبوا في المقدمة أو في المؤخرة، خلال الصيف يتأهب أي قادم إلى المحطة لخوض غزوة أعصاب محرقة.

رمقه سليم ببعض النظرات الفاحصة و أجاب بلا اكتراث و هو يتابع بعينيه شابا يقتاده شرطيان إلى مكتب الأمن :

- نحن نعيش في غياهب مجتمع يفسر التسامح على أنه رضوخ لقوة الآخر أو خوف منه، إن تنازلت مثلا عن مقعدك، فحقارة الرجولة المنقوصة سترافقك إلى أن تصل و ستستمر في مطاردتك كلما استخدمت نفس المحطة.

استغرب الرجل من الجواب الشاحب الذي باغته به محدثه الذي يبدو أن غرابة الأطوار قد رسمت ارتساماتها الاعتيادية على وجهه المتفتح، تابع سليم حديثه الساخر من الواقع :

- يبدو أنك فلاح تعمل بضواحي مكناس، هل ستمنح بضعة أمتار من أرضك لجارك الذي يحتاجها لاستكمال بناء منزله؟ لا داعي لأن تجيب أخي، الرفض البات هو ما ستعرب عنه، و كلنا ننطلق من مبدأ الرجولة المنقوصة في كل سلوكاتنا.

تثاءب الفلاح قليلا، لمح الساعة الحائطية، و استطرد :

- ما نسعى إليه يختزل في الاستفادة من ادارات منظمة، القطار الآتي سيقلني، مضطر لانهاء هذا الحديث الشيق معك..فلتصحبك السلامة.

لم يجب سليم، لاحقت نظراته الفلاح المتعب و هو يهرول ناحية القطار للعثور على مقعد ضمن التشكيلة الأمامية الأكثر أمنا و راحة. اخترع الفلاح ازدحاما حارا قرب مدخل عربة المسافرين الأولى، بدأ اشتباكا بالأيدي مع أحد الوافدين…انفض النزاع باصطحاب بطليه إلى مكتب الأمن و انطلق القطار دونهما. ابتسم سليم، ثم ما لبث أن تفرغ لفحص هاتفه الخليوي، ركب رقما بانزعاج :

- سأتأخر قليلا عن موعد الوصول، جحيم صيف هذا العام يقضي فترة استجمامه في المحطة كالمعتاد.

- و لم لم تستقل سيارتك؟

- هل يتوجب علي يا زوجتي العزيزة أن أذكرك بما ينسيك اياه اغتسالك المستمر بمياه شلالات شكوكك؟ الطريق السريع بين الرباط و مكناس مقطوع لأشغال تطوير، لقد أعلنوا الخبر خلال النشرة الصباحية، بعد دقائق من الآن سيقدمون الأخبار مجددا، تابعي النشرة فالأكيد أن الخبر سيعاد. كنت أتوقع أن تغمريني بموجاتك الصوتية المثيرة فإذا بي أواجه بعبور الصراط الأخلاقي المضجر مجددا.

سمع وشوشة ضحكها، قبل أن تغلق الهاتف قالت :

- كانت سماء الإنتظار منذ الصباح ملبدة بغيوم الشكوك، لكن كلماتك تسمح للربيع بتحرير اطلالاته الانتهازية.

- عباراتك الرومانسية تتطلب استكشافا معقدا، سأعتبر هذا الكلام اطراء شخصيا. لقد التقطت قبلتك عزيزتي، تأكدي بأنني لا أريد لها أن تنتهي.

أقفلت الخط، الاذعان لدعوته اليومية إلى تجديد السفر عبر الجسد يتناهى لانتصاره، فهو لاعب محترف بالكلمات، و ينتقل بمزاجها من حالة إلى حالة، ينتشله من اللون الرمادي ليصبغه بالوردي…لا ركود للغة الجسد المغلفة بالكلمات المتلألئة أو ما يسميه اختصارا رحيق الأنوثة.

نفذت ساعات الانتظار تباعا، الملل يسرح و يمرح في خيالاته، قبيل وصول القطار أذاع أحد موظفي المحطة خبرا سارا، لقد قررت وزارة النقل تخصيص قطار اضافي للمواطنين الذاهبين إلى مكناس درءا لمشكلة الزحام حول المقاعد. وصل قطاره أخيرا، اختفى الزحام و توقفت حرب المقاعد إلى حين. بحث عن مقعد شاغر، و و جده بجانب سيدة توحي ملامحها بأنها تستحق ما يسميه الاحترام الكلاسيكي.

- هل هذا المقعد شاغر سيدتي؟

- أنا آنسة، أعتقد أنه شاغر، يمكن أن تسأل مراقب التذاكر.

- سأستعمله إلى أن يقرر المراقب أن شخصا ما قد حجزه قبلي.

ابتكر جلسة ما، و طفق يقرأ ما يصل إليه من الأخبار التي تضمنتها جريدة المرأة الجالسة إلى جواره. بحث بهدوء عن أي فرصة لاجتذاب محادثة استكشافية.

- مهرجان هذه السنة في العاصمة خيب آمال الجمهور المغربي.

- لقد وزعوا عليهم برنامج المهرجان مجانا، لم يجبرهم أحد على حضور فعالياته. يتراءى لي أنك تدرك أكثر مني أن الموسيقى تشبه الألوان في كل شيء، منها ما يناسبنا و منها ما يبعث على الانزعاج. نفس السيناريو المضجر كتبه الجمهور في مكناس خلال السنة المنصرمة، تذمروا من مهرجان فني أبدوا قبل انطلاقه اعجابهم بفقراته. الفن ينتهي إلى ماخور…شئنا أم أبينا.

- لا أستطيع ادانة أذواق الجماهير، أميل إلى الإعتقاد بأن أداء الفنانين المشاركين لم يكن مقنعا.

لم تجبه، و لم يبد هو أيضا أي اصرار لاستئناف الحوار، قرأت الجريدة لدقائق أخرى ثم طوتها و دفعت بها إليه…تابع باسهاب تداعيات الانشطار الذاتي المخيمة على المنظر السياسي الفلسطيني،قرأ و في عينيه بريق ساخر عن اللقاء المفاجىء بين الرئيس السوري و نوري المالكي و ابرامهما اتفاقات شراكة في قطاعات الأمن و الاقتصاد، استوقفته مقالات متفرقة للجمهور الفني تتناول مجددا رحيل رائد البوب مايكل جاكسون، استفزه تعليق لأحد المتابعين :

- لم أشاهد جاكسون يغني قط، غير أن حجم الحزن الذي خلفه رحيله يثبت أنه فنان استثنائي.

كي تكون استثنائيا في هذا العالم في نظر بعضهم، يجب أن يكون عدد المتأثرين بموتك ضخما. و لم لا؟ هذه وجهة نظر. لم يشعر بمرور الوقت، و أيقظه من غيبوبته القرائية توقف القطار في محطة مكناس، قبل بدء نزول الراكبين قالت السيدة الجالسة إلى جانبه بنبرة جادة :

- هذه أول زيارة لك إلى مكناس؟

- نعم..تقريبا..لم أزرها منذ ثلاث سنوات.

- أشتغل محامية هنا..إليك عنواني.

مع نزول المسافرين، حاول سليم تتبع المرأة، بيد أنها ضاعت وسط الوجوه و تقاطر الأشخاص على المحطة. سأل المارة عن العنوان، و كلما سأل عنه أحدهم أشاح عنه بوجهه و رمقه بنظرات تذكره بمبدأ الرجولة المنقوصة الذي تحدث عنه برفقة الفلاح على دكة الانتظار في الرباط. استوقف شرطي مرور و استفهمه عن العنوان، تفحص الشرطي العنوان ثم ما لبث أن ضحك :

- ضحية أخرى، تلك السيدة محترفة حقا. نحن نلاحق هذه السيدة منذ أسبوعين، تنتحل صفات متعددة : طبيبة، محامية…لقنص بعض الطرائد من أجل ماخور تديره يشير إليه العنوان الذي معك سيدي. و قد ثبت أنها تفضل اقتناص المتزوجين لافتعال بعض المهاترات الرخيصة.

- أشكرك سيدي.

واصل سليم مشواره إلى بيت جده حيث ترقب زوجته عودته، سيطرت عليه أفكار حالكة، السيدة لم تسأل حول ما إذا كان متزوجا أم لا؟ ما الذي يعنيه أن لا…رفض مواصلة الحفر في أغوار التساؤلات التائهة، ردد جملة واحدة قالتها المحامية المزيفة :

- الفن ينتهي إلى ماخور..شئنا أم أبينا.

16 أغسطس 2009

حكاية منحدر (قصة قصيرة)

لم يكن صباح الثامن من أغسطس كغيره من صباحات حياة قررت أن تؤول نحو رتابة قاتمة، جمعت الأم المنهكة بمسؤوليات مزدوجة، امتدت لسنين ثقيلة، خلال الليلة المنصرمة أطفالها الثلاثة، ارتسمت على وجهها الكئيب ابتسامة مترنحة :


- سيعود يا أولادي، لقد وصلنا إخطار رسمي من دائرة الشؤون الإجتماعية بالجيش، أخبروني أن مهمة فرقته قد انتهت و الإجراءات قائمة لاستعادتها إلى الوطن.

اجتاح صمت رهيب غرفة المعيشة المكونة من تلفاز قديم و بعض الكراسي الخشبية المهترئة المحيطة بطاولة أضفى عليها الإستعمال المتكرر طابعا تجريديا حالكا. لم يكن موقف الأطفال مستغربا، فقد أنفق هذا الجسد السقيم المترامي أمام أعينهم الباهتة أعواما أليمة يقدم وعودا شاحبة، لم يتحقق أي منها. وعدوا بملابس جديدة يباهون بها أمام أترابهم، وعدوا باقتناء لعب، وعدوا بالذهاب إلى مدينة الملاهي. آمال نسجتها كلمات تائهة، تحاول دائما الفرار من قسوة الواقع عبر اختلاق الأوهام الجذابة.

مضى وقت سحيق، لا يكاد يميز خلاله الأطفال بين العيد و ما عداه من الأيام. حين أرخى عيد الأضحى في السنة الماضية بظلاله على ساكنة المدينة انتشر الفرح، أصدقاء التقوا بعد غياب، عائلات التأم شملها احتفاء بيوم العيد…المدينة في هرج و مرج، غرف المعيشة في كل منزل غاصة بالأصدقاء و أفراد العائلة، أحاديث نشيطة عن الماضي المبتهج أو الحزين…إنها الحياة تسري في شوارع المدينة و أزقتها. كان أحد المتسكعين يلعب بقطعة نقدية، ارتفعت عاليا…بعد أن قضى مشواره يحصل عل نفس الواجهة، ابتعد قليلا عن مصابيح إضاءة الشارع، فحصل ما كان يتوقعه، التعاسة ظهرت، الواجهة الأخرى للقطعة النقدية وضعت حدا لإضرابها الخائف من النور…قبل أن تستقر القطعة النقدية المزيفة في كف المتسكع، لاح مشهد الأم و أطفالها في ليلة العيد…لقد ناموا منذ الساعات الأولى للمساء…العيد هو كاللاعيد…صراع لاهب مع الوقت…سؤال خريفي يلقي بانطباعاته السوداء على الأسرة الصغيرة : متى يعود؟.

- أطفالي هذا خبر مؤكد، لقد وصلنا من جهة رسمية فلم الوجوم؟

كان أكبر الفتية قد أنهى التعليم الإبتدائي، امتلك بعض الجرأة المخذولة ليقول :

- كل الأخبار السابقة كانت تردنا من جهات رسمية، و لم تكن لمرة واحدة صادقة. كل ما نريده خبر صادق واحد، وعد يتيم قابل للتطبيق.

لا فائدة ترجى من الإسهاب في نقاش مستعمل، صار له نفس عمر أوسط الأطفال. سبع سنوات. سبع سنوات كاملة من الإنتظار…و لاشيء تملكه البراءة سوى الإنتظار كلما اخطفت منها نضارة الطفولة أو ربما آخر همسات الذكرى. هل يجوز للإنسان أن يسرد تاريخه الشخصي بمعزل عن الطفولة؟

التأم الصبية الغرثى حول الفراش بعد أن رفضوا تناول العشاء. قرأوا جميعا في ملامح الأم نزرا يسيرا من الجدية. وشوشات مفعمة بالأمل دارت بينهم. طفقت الأم تصغي لأحاديثهم الهادئة، فرسمت رغما عنها ابتسامة شاحبة…لقد صدقوها هذه المرة. و ماذا يعزب عن الصدق؟ لا شيء…هي أيضا صادقة…إن كانت الورقة الرسمية صادقة. لقد كتبوا أن الفرقة العسكرية التي ينتمي إليها أكملت دورها، و هي تتهيأ للعودة.

استيقظ الصغار يحذوهم الأمل ممتزجا باحتمالات الصدمة منذ الفجر، و رغم أن موعد الباص هو الثامنة و النصف، إلا أن رصيف المسافرين استهل هذا اليوم الإضافي من العمل بثلاثة صبية و سيدة…بعد انتظار فاقت لوعته سنوات الترقب العجاف، و كأن الأمل المختلط بعيون لاهثة تبحث عن الباص استسهل الاحتراق عندما ظهر الباص المهترىء في الأفق يسبقه صوت مزعج. ازداد اطمئنان الأطفال حين عثروا على أصدقاء لهم من مناطق متفرقة قدموا للقاء آبائهم. يبدو أن شبح الوعود المزيفة قد تلاشى…

قيظ أغسطس، و طابور الأسر الذي أحاط بالبوابة الرئيسية لمبنى دائرة الشؤون الإجتماعية كلها متفاعلات انتهازية حامية الوطيس، بيد أنها تمنح للأمل الطفولي طاقة متجددة…الكثير من العائلات تتطلع للقاء الغائبين، لتجديد طقوس العشق…لاسترداد الدفىء الأسري…كلهم هنا، سبقوا الموعد المحدد. و بينما انهمك الإداريون في تفسير قواعد الاصطفاف لدى الآليات العسكرية و كيفيات الاستقبال، سمع على بعد أمتار دوي شاحنة عسكرية عملاقة…إنها الفرقة الخامسة، لقد وصلوا أخيرا…أهازيج الجنود ملأت المكان هيبة و خشوعا…اشرأبت الأعناق عل ملامح الأب أو الأخ أو القريب تتخطى سراديب الغياب المكفهر…دخلت الشاحنة من بوابة أنزلت بها حراسة شديدة…صدرت أوامر بتنظيم لقاء العائدين بأقربائهم، تفاديا لأي انفعالات عاطفية مبالغ فيها…لا بد من انجاز البروتوكولات الرسمية.

لا أحد باستطاعته أن يصف الحالة النفسية للعائلات، مزيج غريب من المشاعر يفوح من وجوه أنهكها الإنتظار…تحترق كي تبقى جذوة الأمل متقدة. أحد الأطفال الثلاثة، ربما كان الأكبر قال و هو يرسم برجله خطوطا متداخلة على الأرض المغبرة :

- انتظرته حينما كان غائبا، و أنا الآن أنتظره و هو على بعد خطوات مني.

أخيرا انتهى العرض العسكري الموشى برفع العلم و ترديد النشيد القومي، بدأ الغائبون يتوافدون على عائلاتهم…مناظر انسانية مؤثرة…كانت الأم محاطة بأطفالها الثلاثة تبحث بطريقة فوضوية بين الوجوه، تحدق في الابتسامات، أين هو؟ أصغر الأطفال الذي تركه الأب جنينا لم يفهم شيئا، كان باردا جدا و مشغولا بالتهام قطعة شيكولاته. تقاطر الكثير من الآملين على المبنى…

ما أقسى اكتظاظ آمال الفقراء.

- سيدي أبحث عن زوجي هذا اسمه.
- الإسم وارد ضمن مجندي الفرقة الخامسة، لكن لا يوجد أي سند قانوني يثبت الزواج
- أرجوك سيدي تفحص الوثائق جيدا لا بد من وجود خطأ.
- لا يوجد أي خطأ، لا يوجد أي سند يثبت الزواج، الجندي الذي تسألين عنه عاد من أرض الحرب قبل شهرين، و قد حضرت شخصيا بعد عودته حفلة زواجه.

خرجت الأم من مكتب الاستعلامات صامتة، حملقت في وجوه أطفالها الثلاثة :

- لقد منحتنا الجهة الرسمية وعدا كاذبا مجددا، لكنها هذه المرة حاولت تحطيم كرامتنا، لقد أرادت الصاق صفة : " وغد " بوالدكم و هو راقد في سلام منذ سنوات.

12 أغسطس 2009

تحليق على الهامش

في الديمومة

يحاول الإنسان في هذا الوجود الصاخب، أن يثقب السماء بارتساماته المتمردة، اعتقادا منه أن للأسفل دوما نهاية. و على النقيض من الفكرة الشائعة التي تربط خلود الإبداع البشري كشيء موضوعي، ككتلة من الانطباعات و الآراء بالحاضر، فإن الماضي لا يتوقف و المستقبل لا يتوقف، الحاضر هو الذي نقول عنه و نحن مطمئنون : " لقد انتهى ". فلماذا نربط الخلود و الشهرة التي تجسد غايات لا متناهية التحديات بامتداد زمني قابل للزوال؟

يتوجب على الإنسان أن يدرك حقيقة لا نسبية فيها، هذه الحقيقة التي نتجاوزها خوفا تقول بكل وضوح : " الإنسان مجرد ذكرى و عليه أن يسعى جاهدا من أجل تجميل ذكراه في أذهان الآخرين ".

الإنسان يواجه نوعين من الرحيل : نوع بيولوجي محض يمكن أن تتحكم فيه متفاعلات نفسية و اجتماعية و وظيفية، و نوع إنساني محض وحده الإنسان المعني به من يملك صلاحية التصرف فيه.

إن من يضعون الرحيل البيولوجي في مستوى هام يقرؤون بهدوء التاريخ من واجهته الأمامية المليئة بالتزييف، و رغم ذلك فهذا النوع من الرحيل يسمح لنا بقياس مدى نجاح تجربة اسقاط جزء من الماضي على المستقبل. باستطاعتنا إذن أن نخلق تغييرات في صالحنا عبر الماضي لأننا نقترب منه رويدا رويدا و المستقبل هو المرآة التي تعكس بصدق تطور هذا الإقتراب(رغم أننا لن نعيش المستقبل)…
أما الحاضر فقد عشناه و انتهى.

07 أغسطس 2009

السينما..السياسة..العلم..الفلسفة في متجر العولمة للعم سام

منذ أن انطلق مشوارها التاريخي الحافل، و هوليود تصنع دون ملل أو تثاؤب أفلام رعب و حرب، شعارها الأسمى مشاهد إراقة دماء الإنسان من أجل أن تنعم الإنسانية بالسلام و الاستقرار. قد تنطوي الحلول السلمية على فعالية وازنة إزاء القضايا الأخلاقية و الفكرية، لكنها تفقد كل أسباب الوجود عندما يكون الهدف حماية المصلحة القومية للولايات المتحدة المرادفة طبقا للرؤية الهوليودية للمصلحة الكونية. فميل جيبسون في فيلم بلاتون الذي أنعش في الذاكرة الأمريكية مآسي فيتنام ساعد السياسيين الأمريكيين على تخطي الارتدادات الجماهيرية العكسية لكارثة فيتنام من خلال البطولات الفائقة التي أظهرها جنود اليو إس آرمي و هم يواجهون الإرهاب الفيتنامي. و على النقيض من الحقائق الموثقة و في صدارتها شهادات الناجين من هول الحرب و الذين يعاني أغلبهم من إعاقات جسمانية دائمة المؤشرة إلى الرعب الفظيع الذي عاشه الجنود الأمريكيون، فإن ميل جيبسون أبدى بسالة نادرة و هو يسحق منفردا العشرات من المقاومين الفيتناميين. نفس المحاكاة و التحوير نجحا في إزالة آثار الإخفاقات العسكرية الذريعة من رفوف الذاكرة الجمعية الأمريكية في أعمال سينمائية تطرقت للعمليات العسكرية التي نفذتها اليو إس آرمي في كل من الصومال و العراق و أفغانستان. كانت ملاحظة السوسيولوجي الفرنسي إميل دوركايم قيمة لدى قوله بأن أسهل معبر يسمح بتزييف الحقيقة التاريخية هو المعبر المؤدي إلى ما سماه الذاكرة الجمعية. و باستعمال الدعايات الاشهارية التي تستهلك ملايين الدولارات أنجزت هوليود مواطنا أمريكيا شغوفا بالسينما رغم استهتارها الصارخ بالتاريخ.

الواجهة الهوليودية لا تحكم السيطرة على فن السينما في أمريكا، حيث تعالج العديد من الأفلام قضايا أحادية العمق الفلسفي، يجدر بنا أن نلاحظ بوضوح أن السينما الأمريكية لا تتناول بواسطة الأسلوب الموضوعي التقليدي، المختزل في إعادة تشكيل الواقع على الشاشة، المشكلات الاجتماعية التي تعاني منها فئات عريضة ضمن المجتمع الأمريكي، و إنما تفضل إذابة المشكلات الإجتماعية في وسط ثقافي، و هكذا تتحول الغيتوهات النائية الممتلئة بالمواطنين السود و المتسمة بتفشي أشكال متفرقة من الجريمة إلى شكل ثقافي يميز التنوع و التعدد الذي تحاول الولايات المتحدة تسويق أحد أرقى النماذج بخصوصه. بالنسبة إلى المتابعة المرتكزة على المنهج السوسيولوجي البحت، الأنماط التعبيرية عن القسوة و التي ابتكرها السود تحيل إلى معوقات اجتماعية تقليدية، لكنها تعبير فني متطور يعكس الخصوصية الأمريكية الإفريقية . من خلال مقارنة بسيطة بين أعداد الأفارقة في أمريكا و سياسات البيت الأبيض اتجاه إفريقيا تتعرى مفارقة عميقة يختصرها سؤال محوري: هل الأفارقة الأمريكيون مازالوا أوفياء لأصولهم؟ من خلال المشاهد السينمائية التي تكرس للتبعية الدائمة بين البيض و السود بعد انتهاء عهد الميز العنصري ، و باعتبار القيمة الديمغرافية و الوظيفية التي حققها السود في الولايات المتحدة، فإن شيئا اسمه : أصل إفريقي تلاشى بصورة شاملة في الذاكرة الأمريكية للمواطنين السود. غير أن هذه الحقيقة لم تحصل بعد على القدرة الاقناعية الكافية، فالاستقبال الذي خصصه العالم و تحديدا الأفارقة لولوج حسين أوباما إلى المكتب البيضاوي شبيه بالاستقبال الذي منحه الجنوب إفريقيون لمقدم مانديلا إلى الرئاسة. يبدو أن السود و أنصار الواقعية السياسية في المجتمع الأمريكي يتوقعون أن تكون فترة باراك حسين مفعمة بالمعجزات. بالنسبة لآمال السود، فإن الخصوصية التي يؤمن بها الأسود الأمريكي تقضي عليها، أما الواقعيون الأمريكيون فالتشابه الغريب بين إسم الرئيس الجديد و أسم الرئيس العراقي صدام حسين الذي اتهمته بروباغاندا بوش بمحاولة زعزعة العالم، يتقاطع مع تصريح الوزير برنار كوشنير الذي أورد فيه: أن حسين أوباما لا يمتلك عصا سحرية.

بالرجوع إلى البعد الفلسفي في السينما الأمريكية، فإن إشكاليات عويصة أحيتها السيناريوهات المدققة، تماما مثلما بدا واضحا في فيلم القانون و النظام من بطولة روبرت دو نيرو و آل باتشينو، كانت فكرة ممتازة، جمعت بين التناقضات المعقدة بين القانون و علته الغائية التي هي النظام، تناقضات متنوعة تبتدئ بالرابطة المثالية بين العنصرين انتهاء بالاستحالة المادية بينهما، فالقانون يستخدم اللانظام لإرساء النظام. و كاستنتاج نظري، تجسد في الفيلم، فإن خرق القانون بمثابة جسر نحو تحقيق النظام. في فيلم الآخرون و الذي جسدت دور البطولة فيه نيكول كيدمان، تكتشف عائلة أرستقراطية بعد صراع مرعب مع دخلاء في دهاليز و غرف قصر بورجوازي فاره و معزول، أنها ماتت منذ سنين بعيدة. السيناريو يقدم الكثير من الدروس الحياتية و التي يمكن أن تستثمرها السياسة الرسمية الأمريكية و من بينها أن الهدف يتكون من شيئين منفصلين: “الإصرار” و “مادة الهدف” و على الشخص العاقل أن لا يبحث عن مبررات مخترعة لعنصر الإصرار الذي يشبه إلى حد بعيد عدد أفوكادرو في علم الكيمياء و الذي يبقى ثابتا بالرغم من استخدامه لدراسة العديد من المعادلات الكيميائية. أما مادة الهدف فهي شبيهة بالتفاعلات الكيميائية المتسمة بالثبات الخارجي، لكن عناصرها متغيرة. بالرغم من المساوىء التي تفرزها السينما الأمريكية، تظل التأملات البانورامية التي يستغرقها الإنسان في الثقافة الأمريكية منتجة على مستوى صناعة المفاهيم، فالعلم و الفلسفة و السينما و السياسة تشكل مركز ثقل ذلك المجسم المادي تارة و اللامادي تارة و الذي سماه العم سام :العولمة. و أختم بقولة مشهورة للمثل إيستوود : “في هذه الحياة، هناك من يمتلكون الريفولفر و هناك من يحفرون، أنت سوف تحفر”. ربما كان إيستوود يقصد ب :”أنت” الإنسان غير الأمريكي و هذا يذكرنا بسياسة :”إذا لم تكن معي فأنت ضدي” التي تبناها الرئيس جورج بوش قبل أن يسدل الستار عليها بمشهد رشق الرئيس الأمريكي بالحذاء.

نصوص قصصية قصيرة

الرحيل :
تثاءب قليلا قبل أن يستيقظفتح بهدوء نافذة كوخه المتهالك الوحيدة،و عبر أوسع ثقب وجده في الستاربدا لعينيه الباهتتين أن غيوما مكفهرة قد سبقت فجر ذلك اليوم الكئيب.استغاث بمرآة قديمة كي يتفحص ملامح وجههحينما حملق في الصورة المعكوسةألفاها جمجمة مبتسمة….بلا عظام
—————————
رشوة :
(1) رشوة أم سعر عرفي؟
لمح السائق المتثائب نقطة ضوء حار قادمة من أمامه على بعد أمتار قليلة، أدرك أن رجال الدرك يتهيؤون لإيقاف عربته الثقيلة بعد أن تبين من صوتها أنها تحمل وزنا يفوق القدر المسموح به طبقا للقانون. كانت الشاحنة محملة بمخزون خبز و متجهة صوب قرية معزولة، يعيش سكانها السذج، أصحاب الأفكار البدائية هادئة الوطيس، على الخبز الرديء القادم من المدينة البعيدة.
و قبل أن يطفىء السائق المرعوب المحرك، فوجىء بأمر شديد البرودة :
- انزل، لقد ارتكبت مخالفة حمل وزن زائد- أعتذر حضرة الضابط، لكن كيف…- الصوت المتهالك يثبت المخالفة ضدك، لا فرصة للإعتراض.
بدا الضابط غبيا و هو يستعد لتحرير محضر المخالفة، إذ لا يوجد أي رجل أمن بمثل غبائه المزيف، أ يدل صوت عربة عتيقة على وزر مضاعف؟ ما الفائدة، إذن، من استحداث مراكز قياس أوزان الشاحنات عبر محطات متفرقة من الطريق؟
- ما هو السعر القانوني للمخالفة حضرة الضابط؟- 850 دولارا لا ينقصها سنت واحد.- و ما هو السعر العرفي؟- 50 دولارا.
(2) رشوة اجتماعية الهوى؟
تفحص رجل الأمن الورقة النقدية، وضعها بتؤدة في جيب بذلته البالية و أذن للسائق باستكمال رحلته. غادرت الشاحنة الحاجز بسلام، و وصل الخبز دون تأخير إلى الجياع.
———————————–
انهيار :
عندما بدأت خطواته تتسارع، كان يوزع نظراته المترنحة على جوانب العالم المتقلص من حوله…اقترب من الجسر الشاهق، حملق بهدوء في مراكب الصيد الواقفة عند حافة الشاطىء…كانت كل ملامح وجهه كئيبة، توحي الى المسافر عبرها بحقيقة وحيدة، إنه يودع هذا العالم.
ألقى بشارة الإنتماء لسلك الشرطة إلى البحر، استخرج الريفولفر بهدوء، و أفرغ الرصاصة الأخيرة داخل رأسه. تمايل جسده قليلا قبل أن يهوي إلى البحر الذي ابتلع الإنسان و التاريخ بعيدا عن صخب الوجود، لدى انتشال جثته عثروا على ابتسامة باهتة رسمها بعناد على شفتيه، كما كانت يده اليمنى قد عصرت صورة سيدة و أتلفت تقاسيمها التعريفية.
———————————-
الوصية :
تلاحقت الأنباء عن احتلال مقاله حول مفهوم تداول السلطة لإهتمامات معظم وسائل الإعلام الوطنية و الدولية. تلقى رسالة تهنئة فارهة من رئيس نقابة الصحافيين و العديد من الهيآت الحقوقية و السياسية. طفق يكتب مقالة الغد إلى أن دلف مدير التحرير إلى مكتبه المكتظ بالأوراق :- ماذا تكتب للغد أستاذ أليم؟- على رأي ناجي العلي، أكتب وصيتي.بدا أن الفكرة راقت مدير التحرير، غير أنه استدرك بصوت مترنح :- أستاذ أليم، أتمنى أن تفسر للقارىء أسباب شغفك بالإنطباعات العالمثالثية.

نحن و المشكلات

لنفترض أن شخصا معينا كان منهمكا في تحرير نص ليضيفه الى مدونته أو إلى أي منبر فكري، قد يحدث أن ينفذ حبر قلمه ((أو ينقطع الوصل بالانترنت)) أثناء الكتابة، فيواجه في هذه الحالة الفجائية مشكلة سرعان ما يحلها باشترائه لقلم جديد ((أو بإصلاح العطب التقني)) يتمم به كتابة أفكاره، يمكن أن نستنتج أن المشكلة لا تنتهي تأثيراتها النفسية ((المتجلية في الانفعال المؤقت الذي ينتهي بمجرد استحضار امكانية استبدال القلم)) بالحصول على حل مناسب لها،خصوصا اذا كانت المشكلة مرتبطة بممارسة فكرية، تستوجب التنظيم و الاسترسال غير المنقطع في عرض الأفكار دون المساس بتجانسها الاقناعي أو خسارة مصدر الإلهام.
إن السؤال الذي يفرض التفكير في اجابة تضيئه، هو نوعية المشكلة التي اعترضت الشخص في المثال السابق، و لنكون دقيقين، فاننا نبحث عن دلالة مقنعة لتصرف الانسان مع مشكلة غير مرتقبة لا تفوق استطاعته الموضوعية، هل واجه الشخص المعني عرقلة محددة عندما نفذ حبر قلمه؟ أم أن العرقلة الحقيقية تتمثل في عدم القدرة على انهاء النص وفق السجية الأولى الموالية لتهييج انتاجه؟ أم أن المشكلة تنقسم الى مرحلة نفاذ الحبر و مرحلة العجز عن إكمال المقال؟
.أعتقد أن الانسان لا يعاني من عملية التفكير، بل ان كل واحد منا يستطيع التفكير و توليد أفكار خاصة به، بالرغم من أن الاختلاف الوحيد يتجلى في درجة أهمية التفكير الفردي المستخدم لتعديل خلل فردي أو جماعي أو فردي-اجتماعي، و اذا تتبعنا مختصا كهربائيا استدعيناه لاصلاح عطب ما، فعندما يريد استبدال المصباح التالف بآخر مشتغل، فانه قد يستخدم كرسيا ليكون على ارتفاع كاف يوصله الى مستوى المصباح الرديء و تركيب المصباح الجديد بصفة جيدة. إن مجرد طلب الكرسي تفكير فردي و فردي-اجتماعي استلزمته مشكلة مزدوجة تبرز في حاجة العامل الى أجر مقابل خدمته و حاجة الأسرة التي طلبته الى المصباح بهدف الاستنارة، و حاجة العامل هي التي تحدد لنا تقريبا واقعيا الى الأيديولوجيا و طريقتها الانتشارية، و هي النمط الأساسي من المشاكل التي تتحكم في التصرفات و السلوكات، و يؤدي تغييرها الى تغيير السلوك حسب قيمة التغيير الطارىء. إن أهمية طلب الكرسي في المثال المقترح تتعلق بدورها القصير زمنيا و الثانوي وظيفيا الا أن مدلولها التحليلي أساسي و ينطوي على معلومات عديدة و متداخلة، التي تصطدم بالبداهة التي تميز طلب الكرسي و تصيره علاجا بديهيا سيتخذه أي واحد منا لو كان في نفس الوضعية. يمكن أن نعبر عن بداهة هذا الحل بالقول بأن قيمته التأثيرية خاضعة لتطبيقه و لا ترتكز على برهنة نظرية مستقلة. في هذا المستوى تظهر لنا المادية و السجن الذي فرضته البيئة المحيطة و المهارات المكتسبة على العقل البشري و امتداداته التحليلية. و هذه هي المشكلة التي تتطلب منا وقفة تاملية .
أول مشكلة مستعصية تواجه الشخص في حياته الاستكشافية و الاكتشافية تبقى مختصرة في علاقة المشاكل بالاجتهاد الفردي و امتداده الاجتماعي. ففريق عريض من الناس انساقوا وراء تأويل غير دقيق لنظرية أو مسلمة الطبع الاجتماعي للانسان، و اتفق العديد منا على قانون اعتبار الانسان عاجزا و قاصرا عند غياب المجتمع و اختفائه. و هذا الاعتقاد الشائع يعيدنا الى نمط التفاعل بين الفكرية الانسانية و الاجتماع، حسب نظري، كل فرد منا يمثل مجتمعا بالنسبة للفرد الآخر و لا يحتاج تشكيل المجتمع بالضرورة الى أكثر من فردين، و هنا يجب أن نتوصل جميعا الى طرح سؤال مفصلي : " من يحكم الآخر و يوجهه الانسان أم المجتمع ؟ " ، الاجابة السليمة هي : " لا وجود لعلاقة سلطوية بين الفرد و المجتمع و انما توجد علاقة تساهمية و تكافلية ".
حين استخلص ماركس الفكرة الشيوعية، لم يعتمد على المساعدات المباشرة القادمة من زملائه أو عائلته، حين توصل اينشتاين الى العلاقة الرياضية الشهيرة التي تجمع بين الكتلة و الطاقة في علم الفيزياء لم يكن على علم بالأثر الاجتماعي لنشاط فردي محض، و عندما يأخذ أحدنا قلمه ليكتب نصا أو تعليقا، هل نخضع خلال كل هذه السلوكات و الحالات الى توجيهات غيرية؟ لنأخذ المثال الأخير و لنجب عن السؤال : في لحظة أولى تكون الاجابة بنعم، لكن استفادة الطرف المستهدف تعادل حسب نظري تهييجه للطرف المعلق، و بالتالي تنعدم العلاقة السلطوية و تولد العلاقة التساهمية المتعادلة.
الى حدود هذا المستوى نكون قد أجبنا بدقة عن السؤال الوارد في بداية الفقرة الأولى، عندما وضعنا الاستفهام عن نمط المشكلة التي تعيق أحدنا عند كتابته لنصه و المتجسدة مثلا في انتهاء كمية الحبر، هذه المشكلة مزدوجة تمزج بانصاف بين فقدان القلم القديم و فقدان السيرورة الانطلاقية للكتابة. إن التأويل العقلي هو المسؤول عن اختيار التوجيهات الخارجية و يقوم بتصفيتها، و هذا التفسير يقترب قليلا من الوظيفة الفيزيولوجية أو البيولوجية للجهاز العصبي. من جهة مغايرة،أعتقد أن العلاقة الواصلة بين العقل و معطيات البيئة المحيطة به لا تعتبر تلقائية أو متولدة عن مصادفة، فهذه الأخيرة لا تثير قدرة التعليق بقدر ما تذكرنا بوجود هذه القدرة في ذاكرتنا العقلية، بعد أن يلامس فحواها المستقل قطاعا فكريا محددا يرغب الشخص في الادلاء برأيه حوله، و بخاصة في حالة ما اذا لاحظ أن الآراء المقترحة لا تتجاوز رأيه أو على الأقل لا تشبهه من حيث السياق الاقناعي. سنستبعد ما يسمى : " مصادفة "، لأننا قلنا ان الذهن ينفذ تصفية أو انتقائية ممنهجة مقيدة ازاء الموضوعات الخارجية، و تظهر لنا خاصية الانتقائية الذهنية في الحالات التي نكون فيها متحكمين في خيارات متعددة، لا تستطيع خلالها أي قوة خارجية ضعيفة كما قوية اقرار خيار معين على حساب الخيارات الأخرى. و وضعية بسيطة ستشرح لنا أن الذهن الحر يستفيد دائما من استقلاليته التأويلية و ليس مقيدا بالموجودات الخارجية و نوعية الاهاجة التي تفرزها، هذه الوضعية تنطلق عندما يدخل أحدنا الى موقع الكتروني مخصص للمدونات و يجده مليئا بالمقالات و التحليلات المتمايزة، فانه يعزل العناوين المثيرة بالنسبة اليه و يطالعها، لكنه قد يختار موضوعا دون مراعاة العنوان و تقزيم جاذبيته، التصور الأولي سيكون ضعيفا، غير أن المادة المقروءة في حالات كثيرة تنشط المطالعة و تكتسح التصور الأولي. هذا المثال المقتبس من علاقتنا اليومية بالانترنت يكرس نظرية الانتقائية الذهنية المتحكمة في العقل البشري، عندما لا يسقط في وضعيات غير عادية، غالبا ما تعبر عنها العوامل و التفاعلات النفسية بالنسبة الى العالم الخارجي.
سعة التوصيف السابق لا تزيل أبدا الكتابات العلمية و النفسية المتصاعدة التي تفصل بين العاطفة و العقل بواسطة مقاييس أخرى.المهم، أننا وظفنا النسق الاجتماعي و الفردي و وقائعهما و مواصفاتهما لنستنتج أن العقل انتقائي بالنسبة الى كل عناصر المحيط الخارجي، و لا تنحصر هذه الفرضية في دلالتها الفلسفية التي تكتسيها، لكنها مسالة تقويمية بالدرجة الأولى و تتجسد في اشكال الحلول التي يؤلفها الفرد لحصر الانعكاسات النفسية التي تسببها المشاكل اليومية، خصوصا عندما تتميز بالتجدد و التراكم، أما المشاكل التي تصنف ضمن أحداث المعتاد الاجتماعي، فانها الفتحة المنطقية الوحيدة التي رخصت لنظريات و فرضيات خضوع الانسان و تبعية سلوكه الى مساطر عاطفية و نفسية و عقلية.و اذا ما لاحظنا القراءات و التحليلات الفلسفية المؤيدة لنظرية تعددية موجهات عيش الانسان، فإننا نستخلص أنها تستند الى التوصيف انطلاقا من أحداث اعتيادية و فوق-اعتيادية لأن هدفها الاساسي هو الاقناع، و هذا الأخير يمكن أن يكون مفعما بتدليسات عدة.
الفكرة الأساسية:
المشاكل ليست الا تكريسا للانتقائية التي تميز التصرف العقلي، و تنقسم دائما الى مرحلتين:مرحلة تولد عجزا ماديا تحتاج تعديلا ماديا، و مرحلة ثانية تستوجب الاستفادة النظرية التي تحصل على مرادفتها التطبيقية من تخزين أحداث المرحلة الأولى.و هذا ما يولد في الأخير ما نسميه عادة:"التجربة الشخصية".

أزمة الزمن

الذي يصوغ التحليل السياسي انسان يؤمن بقناعات محددة، خصوصا القناعات المتصلة بأسئلة و تحديات التطوير الاقتصادي و الاجتماعي التي تبقى أكثر وضوحا و سهولة للنقد و التطبيق اذا ما قورنت بالقناعات الأيديولوجية التي يستحيل أن تخضع للنقد و التدخل البشري العملي بسبب الطبيعة المطاطية للمفاهيم المجردة. فالمدافع عن العلمانية لم يعد مترنحا أمام حسابات الانتقادات الاسلامية، لأن المعنى القديم للعلمانية تبدل جذريا تقريبا، و تجاوز الصيغة التقليدية الداعية الى ترك ما لله لله و تمتين الهوية المجتمعية القانونية للفرد بهدف تعميم كفاءاته ليستفيد منها فريق ممتد من الناس من نفس المجتمع و من مجتمعات مختلفة. و ازداد البريق العلماني بعد أن انبرى التفكير في : " علمانية عربية " تتميز عن : " العلمانية الغربية " و ان جمعت بينهما علاقة فضل (مؤثر و مؤثر عليه) للفكر العلماني الغربي على الفكر العلماني العربي، و ليست علاقة تفوق و جودة، و انما علاقة من حيث الزمن، فالغربيون سبقوا العرب في التنظير و الاجراء العلمانيين. و كما استغل العلمانيون ليونة المصطلحات لإشهار المذهب العلماني، فقد خسروا مفردات مشهورة كالرجعية و الظلامية و التي رشقوا بها الاسلاميين طيلة سنوات، لأن الفصيل الاسلامي جدد مصطلحاته و راجع أفكاره أيضا، قد لا يكون ذلك التجديد الأصولي، لكنه تجديد ناجع يحفظ للهيآت و الفعاليات الإسلامية موقعا وازنا داخل المجتمعات العربية و الاسلامية عموما.
السياسة وفق المنظور العلماني تتعلق من حيث الممارسة بمناصب التسيير و الادارة، و من حيث هي شكل من أشكال الفكر البشري المستشري على مرحلتين: مرحلة التنظير المجرد و مرحلة الاسقاط على المجتمع أو التطبيق و التمثل، فانها تعنى بضروريات المنصب و التأثيرات السلوكية و العقلية المتبادلة بين الدرجة الاجتماعية و السلطوية للمنصب و الأيديولوجيا التي يعتقد بها صاحب المنصب (عندما نقول مثلا، ان الرئيس الفنزويلي استخدم النفط لتشييد أساس ترتفع عليه وحدة لاتينية). و هي أيضا في مظاهرها المتطورة، استشراف للمستقبل يقاس مقدار حصافته بفعالية مضادات المشاكل التي اخترعها قبل حدوث المشاكل. المثال الذي يمكن أن نستشهد به في سياق الاستباق السياسي هو اليابان. ان اليابان ما قبل قصف هيروشيما بالسلاح النووي صورة مناقضة ليابان ما بعد القصف. ثم مثال الصين، الذي يصنف في صدارة لائحة المسارات الانبعاثية الرائدة فضلا عن ألمانيا التي خسرت خلال آخر صراعين كونيين.
الاستشراف السياسي المنطوي على التخطيط العسكري في النموذج الياباني لم يكن ناجعا، لأن انهزام الجيش الياباني لم يتم على فترات زمنية متباعدة و انما في وقت وجيز أعقب تلقيه المباغت لضربة قاصمة. و قد يفسر هذا الخلل باهظ التكلفة بالاخلاص الياباني لالتزاماته مع حلف المحور و بعد ذلك بانتمائه العضوي إلى حلف الناتو. و الاسهاب في استرداد الأحداث التاريخية لن يفيد في تركيب خصائص تقنية التحليل السياسي، الذي هو سلسلة من عمليات منطقية تتأثر سلبا بالانفعالات الوجدانية المؤقتة التي تفرزها أحداث خاصة كالثورات الشعبية، تدفع المحلل الى الاستفاضة في دروس موعظية عتيقة، كالوفاء للمبادىء و ابراز رابط التضاد القائم بين المبادىء و الفعل السياسي بمختلف تجلياته. فعندما خرق الانسان الواعي ( أي العارف بالتعريفات المتداولة لقيمة التسامح أو التكافل أو الواجب أو الحق…مثلا) المبادىء ذات النفع العام و المعصومة ثقافيا (أي التي توافق عليها جميع الثقافات مع اختلافات طفيفة في التطبيق، فالتعاون الاجتماعي (مثلا) في الهند يحمل نفس المعنى و بالتالي نفس التطبيق في البرازيل و هو نفسه في كافة أصقاع العالم...) انبلج التصرف السياسي و المرتكز على تشويه معنى قيمة محددة، التعاون مثلا، للحصول على مكسب ذي نفع فردي أو فئوي. هذه الظاهرة ليست محددة بدقة زمنيا. و هي من نوع الظواهر الانسانية التي يجب أن نفهمها و نتبنى موقفا ازاءها و لا ننفق الجهود المضنية للكشف عن اطارها الزمني الدقيق. و لا يعني العجز في ضبط الزمن قصورا في القدرة البشرية، مثلا، كما نواجهه مع تاريخ التصرف السياسي الذي نجهل توقيت تشكله. فحتى المظاهر الأكثر بساطة للثقافة الانسانية كالأكل بواسطة اليد اليمنى أو اليسرى مثلا، و الاختلاء بالنفس عند قضاء الحاجات البيولوجية، و اعتمار الملابس امتثالا لقيمة الحياء و الحشمة، لا نملك التواريخ الدقيقة لبداية الشروع في انتهاجها، و انما نحاول أن نقنع عقولنا بفرضيات آركيولوجية و انثروبولوجية متنوعة. انها أزمة الزمن. فلم ينتصر الانسان عليه و هو لم يتحكم فيه بعد طبقا للفكر العلمي الرياضي.
أزمة الزمن بجميع أشكالها لم تعد تشغل الا فئة متقلصة من المثقفين عموما، لأن تقادمها و اخفاق مختلف العلوم العالية الدقة في تطويعها أدى الى تكيف الانسان معها و بدأ يقر بهزيمته أمامها مستعيضا عن خسارته بالاستمتاع بالمعجزات التي أبهره العلم بها. فالانسان المهيمن على هاتف متطور يربطه بعائلته و أصدقائه و مقر عمله دون خوف من الاكراه الجغرافي، و الانسان المسيطر على حاسوب يحفظ له معلوماته و ينظم له تحركاته اليومية بالتفصيل المضحك أحيانا، هذا الانسان لن يفكر في ترفيات منسية كأزمة الزمن المتفرعة. و ربما قد تكون الرفاهية و نقيضها الفقر المدقع سببين ينجم عنهما انخفاض في مستوى الذكاء الطبيعي أو الذكاء التصاعدي (الذكاء الذي فهم أن الكهرباء تستعمل للانارة و لكنه طورها لتشرح له آليات التواصل العصبي و الهرموني لدى الانسان كمثال) . و سيظل هذين السببين فرضية لن تكتسي المشروعية الا من خلال برهنة علمية محضة. رغم أنها فرضية تعكس تفوق الانسان على عجز العلم.

الجرأة كحالة صراعية


لن أشدد على الثقة أو المعرفة/الخلفية القويمة التي تخول لي الكتابة في موضوع الجرأة في تناول القضايا الإجتماعية على صفحات المنتديات و الملتقيات الفكرية، فالموضوعات التي يكرس المشتغلون بالتفكير مهما كانوا(مفكرين و مدونين و صحافيين...) اجتهاداتهم الفكرية لمناقشتها تبقى مسألة اختيارات شخصية ليس سليما أن تنفى عنها الموضوعية، إذ صار واضحا أن للقناعات الذاتية تأثير رئيس في نظرة القراء إلى الكتابات التي تتطرق إلى مفردة "الجرأة" في التفكير في المشكلات و الظواهر الإجتماعية بالعالم العربي، قد يحاول البعض ادخالها في مجال مفاهيمي أخلاقي تتعلق حدوده بالدين و التقاليد و مواصفات الإختلاف التي تميز المجتمعات العربية عن باقي مجتمعات العالم. و لا يخفى علينا أن تيار حقوق الإنسان و الديمقراطية المنادى به في الكون، أسرف في تمجيد مظاهر الإختلاف بين الشعوب و نادى بنهج التسامح لتجاوز كل أشكال التطرف و صراع الثقافات، و خصوصا، موضوع صراع الثقافات و المذاهب الفكرية الذي يشكل البعد الأيديولوجي لمصطلح:"الجرأة" التي تتباين معانيها باختلاف المنظور الفكري الذي يتناولها، فهي بالنسبة للعلماني غيرها في رؤية عالم الدين.
و إذا كان الإختلاف ظاهرة عقلانية و مندوبا إليها في المجتمعات الإنسانية المتسمة بتمايزها في مستويات متعددة، فإن إذابة مفردة "الجرأة" في نسق مفاهيمي يتأسس على المعطيات الدينية في المنطقة العربية ليس مقترحا رجيما يستدعي مواجهته بلغة الشجب فحسب، لا مجال للمفاضلة بين شخص يرتدي لباسا متصلا بعقيدته ، مثلا،و شخص آخر يرتدي صنفا مغايرا من الألبسة، فاللباس(و في العمق الشمولي:السلوك) خيار بشري يندرج ضمن الحرية الفردية المحمية بمشروع التكيف مع الإختلاف و القبول غير المشروط بكل تجلياته و تكويناته، و هو المشروع الذي تطور إلى إعلان عالمي و قوانين دولية لرعاية حقوق الإنسان. نفس الموقف يتبعه الفكر السياسي و القانوني و السوسيولوجي لدى رسمه لتموضعه بالنسبة لمختلف العلاقات و المزاولات الإجتماعية. لا يحق لأي إنسان أن ينجز مفاضلة من أي نوع كانت بين مظاهر التعامل و السلوك في مسائل العرف و التقليد و العقيدة (أي الثقافة) عند أغياره
من الضروري أن أعيد التأكيد على رأي لي في نظرية صراع الثقافات( التي ترتبط عضويا بموضوع:"الجرأة" في عرض المواضيع الإجتماعية التي تستمد أهميتها من اعتبارها العالمي شهادات من جانب المدونين و الكتاب عموما حول مواصفات البيئة الإجتماعية التي تحتضنهم) التي تصدت لها مقاربات كثيرة، البادي لي أن صراع الثقافات صيغة متطورة لتقابل المصالح الإستراتيجية للدول، إنه صورة بشرية قاتمة و سلبية تتمخض عن صراع سياسي صرف. في نموذجي العراق و لبنان، انبثق التهاب طوائفي و بينطائفي جسيم بين أفراد المجتمع العراقي و اللبناني، و هو ماتعتبره تحقيقات و متابعات عربية و غربية نوعا من صراع المذاهب و الإتجاهات العرقية و المذهبية العقائدية (باعتبار الدين جزءا من الثقافة المميزة لجماعة بشرية ما). بيد أن المراجعة التاريخية تفتح الفرصة أمام تفسير أكثر أقناعا : الإلتهاب الطائفي في نموذج العراق مشروح بالسياسة التي تدير البلد. و رغم الطبيعة الإنتهازية للطوائفية مهما كان مرتعها الجغرافي مثلما يقول التاريخ، حيث يتوقف على فترات زمنية متباعدة التبادل الدموي للسلطة و تجف الاحترابات العنيفة بين التيارات الفكرية و العقائدية فإن أغلب الصراعات الطائفية تتناهى إلى تكريس:"الكفاءة الوطنية" كمقياس وحيد للمفاضلة بين المواطنين بحثا عن أدنى مقادير الاستقرار و التعايش
لا فضل لإنسان على آخر إلا بمقدار الفائدة السوسيو-اقتصادية و العلمية التي يقدمها أو يجلبها للوطن، وهو نفس التعريف الممنوح أو الذي يجب أن نمنحه، في تقديري، للتقوى الدينية. القائلون بصراع الثقافات، في منطقتنا العربية، و الإستغراق في تفسيره بعوامل إجتماعية أنثروبولوجية و سايكولوجية بحتة، فإني لا أستطيع إلا أن أطلب منهم التنازل عن هذا الموقف المرفوض. العامل السياسي موجود و يشكل القوة الدافعة المركزية، و هذا العامل يخطىء بعض المحللين و الملاحظين و يربطونه بما يسمى :"المؤامرة". و لا شك أن الموجود الموضوعي العربي المختزل في المواطن العربي و اعتقاداته كفرد بين كتلة جماهيرية لا يقوم على الخداع و الشر في كل شيء، و لعل التاريخ يبين لنا أن المؤامرة السياسة بداية الطريق نحو اليقظة العلمية و الحضارية في العديد من الفترات التي عبرها الكيان العربي و الإسلامي
الجرأة بمعانيها المتدرجة، لا تتعرض للتقزيم إذا وجهت بمحددات دينية تحوم حول مفردات الحشمة و الحياء و الإمتثال للشرع في معاملة موضوع معالجة الحقوق الشخصية. ربط مثل هذه المسائل بالإرشادات الدينية متهم بالرجعية و الإرهاب ( حتى أسماء التهم صرنا نستوردها من الآخر)، حتى أن كتابات كثيرة، ذائعة على نطاق شاسع اليوم، تنزع صفة الرأي و الموقف من هذا التحليل، و تحكم عليه باللاعقلانية و الإساءة للمسيرة التقدمية التي قطعت فيها البلدان العربية أشواطا ثقيلة عقب الحصول على الانعتاق السياسي. ما لا يوجد له أي أساس موضوعي أن نقرأ عن مثقفين يعتبرون أن التكنولوجيا و اليقظة العلمية و العقلانية في مجتمعاتنا العربية تتنافى مع الإنعكاسات السلوكية للديانة الإسلامية. حالات المواطنين العرب تتسم في الكثير منها بالفتور على المستوى الديني التطبيقي ، إلا أن العربي الملتزم بالإسلام و غير الملتزم به سارا معا ينددان بتصريحات البابا، في مشهد متميز يظهر أن المجتمع العربي رغم علاقة بعض أفراده الفاترة بالدين يؤمن بأن محاولة ابتكار تناقض وهمي لاموضوعي بين الدين و التحول العلمي و السوسيو-اقتصادي بعالمنا العربي، مشروع سفسطائي و مسيس يتقنع بمنظومة مفاهيمية مشهورة تحوم حول مفهوم مفخخ هو : " الجرأة " و التي يرى جزء المفكرين الغربيين أنها محاصرة في العالم العربي بسبب الأغلال الدينية
.إن من يطعن في الجغرافيا التي رسمها الإسلام للجرأة في التطرق للشؤون الإجتماعية يجب أن يمتلكها ليقول للأنظمة السياسية التي حرمت المواطن من اللباس الذي اختاره نظرا لصلته بالمعتقد، يجب أن يقول و بكل الجرأة أن لا مبرر موضوعي لمنع ارتداء الأزياء الدينية في تونس و فرنسا و غيرهما، بل إنه جريمة بمقتضى القانون الدولي المرسخ للديمقراطية في كل مناحي الحركة الإنسانية، و كذلك الإنسان العربي في تقويمه للعلاقات الإجتماعية و قناعاته بصددها يبقى انسانا يمكن أن نستخرج منه الفعالية و الإنتاج مهما غرق في الأصفاد السلوكية و الفكرية المحرفة باسم الدين. لن أستطيع التستر على تجاوزات خطيرة من بينها أصناف الصراع الطائفي و البينطائفي في العراق و سواه من بلداننا العربية، غير أنها في الأصل تأويلات دينية خاطئة لعلماء تم نقلها بواسطة النظام السياسي إلى المجتمع.لقد أدانت الإنسانية جرائم أتباع المنهجية الشيوعية و لم تناهض الشيوعية من منطلق كونها فكرا و منظومة لتطور الفعالية الإنسانية، و بالمثل فإن المجتمع العربي، مدعو للتخلي عن بعض الممارساتت الدينية من منطلق أنها تاويلات غير منصفة لباحثين و علماء في الدين زكتها أنظمة سياسية صار بديهيا أنها بعيدة عن الديمقراطية و التقدمية التي يرسخها المعتقد الإسلامي.
إن من يقول إن الدين يستخدم السياسة يدلي بموقف يتناقض مع التاريخ و الحضارة، السياسة هي التي تستخدم الدين بل إنها تخترعه حينما لا يكون موجودا مثلما حصل في الحضارتين الفرعونية و البابلية.