الذي يصوغ التحليل السياسي انسان يؤمن بقناعات محددة، خصوصا القناعات المتصلة بأسئلة و تحديات التطوير الاقتصادي و الاجتماعي التي تبقى أكثر وضوحا و سهولة للنقد و التطبيق اذا ما قورنت بالقناعات الأيديولوجية التي يستحيل أن تخضع للنقد و التدخل البشري العملي بسبب الطبيعة المطاطية للمفاهيم المجردة. فالمدافع عن العلمانية لم يعد مترنحا أمام حسابات الانتقادات الاسلامية، لأن المعنى القديم للعلمانية تبدل جذريا تقريبا، و تجاوز الصيغة التقليدية الداعية الى ترك ما لله لله و تمتين الهوية المجتمعية القانونية للفرد بهدف تعميم كفاءاته ليستفيد منها فريق ممتد من الناس من نفس المجتمع و من مجتمعات مختلفة. و ازداد البريق العلماني بعد أن انبرى التفكير في : " علمانية عربية " تتميز عن : " العلمانية الغربية " و ان جمعت بينهما علاقة فضل (مؤثر و مؤثر عليه) للفكر العلماني الغربي على الفكر العلماني العربي، و ليست علاقة تفوق و جودة، و انما علاقة من حيث الزمن، فالغربيون سبقوا العرب في التنظير و الاجراء العلمانيين. و كما استغل العلمانيون ليونة المصطلحات لإشهار المذهب العلماني، فقد خسروا مفردات مشهورة كالرجعية و الظلامية و التي رشقوا بها الاسلاميين طيلة سنوات، لأن الفصيل الاسلامي جدد مصطلحاته و راجع أفكاره أيضا، قد لا يكون ذلك التجديد الأصولي، لكنه تجديد ناجع يحفظ للهيآت و الفعاليات الإسلامية موقعا وازنا داخل المجتمعات العربية و الاسلامية عموما.
السياسة وفق المنظور العلماني تتعلق من حيث الممارسة بمناصب التسيير و الادارة، و من حيث هي شكل من أشكال الفكر البشري المستشري على مرحلتين: مرحلة التنظير المجرد و مرحلة الاسقاط على المجتمع أو التطبيق و التمثل، فانها تعنى بضروريات المنصب و التأثيرات السلوكية و العقلية المتبادلة بين الدرجة الاجتماعية و السلطوية للمنصب و الأيديولوجيا التي يعتقد بها صاحب المنصب (عندما نقول مثلا، ان الرئيس الفنزويلي استخدم النفط لتشييد أساس ترتفع عليه وحدة لاتينية). و هي أيضا في مظاهرها المتطورة، استشراف للمستقبل يقاس مقدار حصافته بفعالية مضادات المشاكل التي اخترعها قبل حدوث المشاكل. المثال الذي يمكن أن نستشهد به في سياق الاستباق السياسي هو اليابان. ان اليابان ما قبل قصف هيروشيما بالسلاح النووي صورة مناقضة ليابان ما بعد القصف. ثم مثال الصين، الذي يصنف في صدارة لائحة المسارات الانبعاثية الرائدة فضلا عن ألمانيا التي خسرت خلال آخر صراعين كونيين.
الاستشراف السياسي المنطوي على التخطيط العسكري في النموذج الياباني لم يكن ناجعا، لأن انهزام الجيش الياباني لم يتم على فترات زمنية متباعدة و انما في وقت وجيز أعقب تلقيه المباغت لضربة قاصمة. و قد يفسر هذا الخلل باهظ التكلفة بالاخلاص الياباني لالتزاماته مع حلف المحور و بعد ذلك بانتمائه العضوي إلى حلف الناتو. و الاسهاب في استرداد الأحداث التاريخية لن يفيد في تركيب خصائص تقنية التحليل السياسي، الذي هو سلسلة من عمليات منطقية تتأثر سلبا بالانفعالات الوجدانية المؤقتة التي تفرزها أحداث خاصة كالثورات الشعبية، تدفع المحلل الى الاستفاضة في دروس موعظية عتيقة، كالوفاء للمبادىء و ابراز رابط التضاد القائم بين المبادىء و الفعل السياسي بمختلف تجلياته. فعندما خرق الانسان الواعي ( أي العارف بالتعريفات المتداولة لقيمة التسامح أو التكافل أو الواجب أو الحق…مثلا) المبادىء ذات النفع العام و المعصومة ثقافيا (أي التي توافق عليها جميع الثقافات مع اختلافات طفيفة في التطبيق، فالتعاون الاجتماعي (مثلا) في الهند يحمل نفس المعنى و بالتالي نفس التطبيق في البرازيل و هو نفسه في كافة أصقاع العالم...) انبلج التصرف السياسي و المرتكز على تشويه معنى قيمة محددة، التعاون مثلا، للحصول على مكسب ذي نفع فردي أو فئوي. هذه الظاهرة ليست محددة بدقة زمنيا. و هي من نوع الظواهر الانسانية التي يجب أن نفهمها و نتبنى موقفا ازاءها و لا ننفق الجهود المضنية للكشف عن اطارها الزمني الدقيق. و لا يعني العجز في ضبط الزمن قصورا في القدرة البشرية، مثلا، كما نواجهه مع تاريخ التصرف السياسي الذي نجهل توقيت تشكله. فحتى المظاهر الأكثر بساطة للثقافة الانسانية كالأكل بواسطة اليد اليمنى أو اليسرى مثلا، و الاختلاء بالنفس عند قضاء الحاجات البيولوجية، و اعتمار الملابس امتثالا لقيمة الحياء و الحشمة، لا نملك التواريخ الدقيقة لبداية الشروع في انتهاجها، و انما نحاول أن نقنع عقولنا بفرضيات آركيولوجية و انثروبولوجية متنوعة. انها أزمة الزمن. فلم ينتصر الانسان عليه و هو لم يتحكم فيه بعد طبقا للفكر العلمي الرياضي.
أزمة الزمن بجميع أشكالها لم تعد تشغل الا فئة متقلصة من المثقفين عموما، لأن تقادمها و اخفاق مختلف العلوم العالية الدقة في تطويعها أدى الى تكيف الانسان معها و بدأ يقر بهزيمته أمامها مستعيضا عن خسارته بالاستمتاع بالمعجزات التي أبهره العلم بها. فالانسان المهيمن على هاتف متطور يربطه بعائلته و أصدقائه و مقر عمله دون خوف من الاكراه الجغرافي، و الانسان المسيطر على حاسوب يحفظ له معلوماته و ينظم له تحركاته اليومية بالتفصيل المضحك أحيانا، هذا الانسان لن يفكر في ترفيات منسية كأزمة الزمن المتفرعة. و ربما قد تكون الرفاهية و نقيضها الفقر المدقع سببين ينجم عنهما انخفاض في مستوى الذكاء الطبيعي أو الذكاء التصاعدي (الذكاء الذي فهم أن الكهرباء تستعمل للانارة و لكنه طورها لتشرح له آليات التواصل العصبي و الهرموني لدى الانسان كمثال) . و سيظل هذين السببين فرضية لن تكتسي المشروعية الا من خلال برهنة علمية محضة. رغم أنها فرضية تعكس تفوق الانسان على عجز العلم.