16 أغسطس 2009

حكاية منحدر (قصة قصيرة)

لم يكن صباح الثامن من أغسطس كغيره من صباحات حياة قررت أن تؤول نحو رتابة قاتمة، جمعت الأم المنهكة بمسؤوليات مزدوجة، امتدت لسنين ثقيلة، خلال الليلة المنصرمة أطفالها الثلاثة، ارتسمت على وجهها الكئيب ابتسامة مترنحة :


- سيعود يا أولادي، لقد وصلنا إخطار رسمي من دائرة الشؤون الإجتماعية بالجيش، أخبروني أن مهمة فرقته قد انتهت و الإجراءات قائمة لاستعادتها إلى الوطن.

اجتاح صمت رهيب غرفة المعيشة المكونة من تلفاز قديم و بعض الكراسي الخشبية المهترئة المحيطة بطاولة أضفى عليها الإستعمال المتكرر طابعا تجريديا حالكا. لم يكن موقف الأطفال مستغربا، فقد أنفق هذا الجسد السقيم المترامي أمام أعينهم الباهتة أعواما أليمة يقدم وعودا شاحبة، لم يتحقق أي منها. وعدوا بملابس جديدة يباهون بها أمام أترابهم، وعدوا باقتناء لعب، وعدوا بالذهاب إلى مدينة الملاهي. آمال نسجتها كلمات تائهة، تحاول دائما الفرار من قسوة الواقع عبر اختلاق الأوهام الجذابة.

مضى وقت سحيق، لا يكاد يميز خلاله الأطفال بين العيد و ما عداه من الأيام. حين أرخى عيد الأضحى في السنة الماضية بظلاله على ساكنة المدينة انتشر الفرح، أصدقاء التقوا بعد غياب، عائلات التأم شملها احتفاء بيوم العيد…المدينة في هرج و مرج، غرف المعيشة في كل منزل غاصة بالأصدقاء و أفراد العائلة، أحاديث نشيطة عن الماضي المبتهج أو الحزين…إنها الحياة تسري في شوارع المدينة و أزقتها. كان أحد المتسكعين يلعب بقطعة نقدية، ارتفعت عاليا…بعد أن قضى مشواره يحصل عل نفس الواجهة، ابتعد قليلا عن مصابيح إضاءة الشارع، فحصل ما كان يتوقعه، التعاسة ظهرت، الواجهة الأخرى للقطعة النقدية وضعت حدا لإضرابها الخائف من النور…قبل أن تستقر القطعة النقدية المزيفة في كف المتسكع، لاح مشهد الأم و أطفالها في ليلة العيد…لقد ناموا منذ الساعات الأولى للمساء…العيد هو كاللاعيد…صراع لاهب مع الوقت…سؤال خريفي يلقي بانطباعاته السوداء على الأسرة الصغيرة : متى يعود؟.

- أطفالي هذا خبر مؤكد، لقد وصلنا من جهة رسمية فلم الوجوم؟

كان أكبر الفتية قد أنهى التعليم الإبتدائي، امتلك بعض الجرأة المخذولة ليقول :

- كل الأخبار السابقة كانت تردنا من جهات رسمية، و لم تكن لمرة واحدة صادقة. كل ما نريده خبر صادق واحد، وعد يتيم قابل للتطبيق.

لا فائدة ترجى من الإسهاب في نقاش مستعمل، صار له نفس عمر أوسط الأطفال. سبع سنوات. سبع سنوات كاملة من الإنتظار…و لاشيء تملكه البراءة سوى الإنتظار كلما اخطفت منها نضارة الطفولة أو ربما آخر همسات الذكرى. هل يجوز للإنسان أن يسرد تاريخه الشخصي بمعزل عن الطفولة؟

التأم الصبية الغرثى حول الفراش بعد أن رفضوا تناول العشاء. قرأوا جميعا في ملامح الأم نزرا يسيرا من الجدية. وشوشات مفعمة بالأمل دارت بينهم. طفقت الأم تصغي لأحاديثهم الهادئة، فرسمت رغما عنها ابتسامة شاحبة…لقد صدقوها هذه المرة. و ماذا يعزب عن الصدق؟ لا شيء…هي أيضا صادقة…إن كانت الورقة الرسمية صادقة. لقد كتبوا أن الفرقة العسكرية التي ينتمي إليها أكملت دورها، و هي تتهيأ للعودة.

استيقظ الصغار يحذوهم الأمل ممتزجا باحتمالات الصدمة منذ الفجر، و رغم أن موعد الباص هو الثامنة و النصف، إلا أن رصيف المسافرين استهل هذا اليوم الإضافي من العمل بثلاثة صبية و سيدة…بعد انتظار فاقت لوعته سنوات الترقب العجاف، و كأن الأمل المختلط بعيون لاهثة تبحث عن الباص استسهل الاحتراق عندما ظهر الباص المهترىء في الأفق يسبقه صوت مزعج. ازداد اطمئنان الأطفال حين عثروا على أصدقاء لهم من مناطق متفرقة قدموا للقاء آبائهم. يبدو أن شبح الوعود المزيفة قد تلاشى…

قيظ أغسطس، و طابور الأسر الذي أحاط بالبوابة الرئيسية لمبنى دائرة الشؤون الإجتماعية كلها متفاعلات انتهازية حامية الوطيس، بيد أنها تمنح للأمل الطفولي طاقة متجددة…الكثير من العائلات تتطلع للقاء الغائبين، لتجديد طقوس العشق…لاسترداد الدفىء الأسري…كلهم هنا، سبقوا الموعد المحدد. و بينما انهمك الإداريون في تفسير قواعد الاصطفاف لدى الآليات العسكرية و كيفيات الاستقبال، سمع على بعد أمتار دوي شاحنة عسكرية عملاقة…إنها الفرقة الخامسة، لقد وصلوا أخيرا…أهازيج الجنود ملأت المكان هيبة و خشوعا…اشرأبت الأعناق عل ملامح الأب أو الأخ أو القريب تتخطى سراديب الغياب المكفهر…دخلت الشاحنة من بوابة أنزلت بها حراسة شديدة…صدرت أوامر بتنظيم لقاء العائدين بأقربائهم، تفاديا لأي انفعالات عاطفية مبالغ فيها…لا بد من انجاز البروتوكولات الرسمية.

لا أحد باستطاعته أن يصف الحالة النفسية للعائلات، مزيج غريب من المشاعر يفوح من وجوه أنهكها الإنتظار…تحترق كي تبقى جذوة الأمل متقدة. أحد الأطفال الثلاثة، ربما كان الأكبر قال و هو يرسم برجله خطوطا متداخلة على الأرض المغبرة :

- انتظرته حينما كان غائبا، و أنا الآن أنتظره و هو على بعد خطوات مني.

أخيرا انتهى العرض العسكري الموشى برفع العلم و ترديد النشيد القومي، بدأ الغائبون يتوافدون على عائلاتهم…مناظر انسانية مؤثرة…كانت الأم محاطة بأطفالها الثلاثة تبحث بطريقة فوضوية بين الوجوه، تحدق في الابتسامات، أين هو؟ أصغر الأطفال الذي تركه الأب جنينا لم يفهم شيئا، كان باردا جدا و مشغولا بالتهام قطعة شيكولاته. تقاطر الكثير من الآملين على المبنى…

ما أقسى اكتظاظ آمال الفقراء.

- سيدي أبحث عن زوجي هذا اسمه.
- الإسم وارد ضمن مجندي الفرقة الخامسة، لكن لا يوجد أي سند قانوني يثبت الزواج
- أرجوك سيدي تفحص الوثائق جيدا لا بد من وجود خطأ.
- لا يوجد أي خطأ، لا يوجد أي سند يثبت الزواج، الجندي الذي تسألين عنه عاد من أرض الحرب قبل شهرين، و قد حضرت شخصيا بعد عودته حفلة زواجه.

خرجت الأم من مكتب الاستعلامات صامتة، حملقت في وجوه أطفالها الثلاثة :

- لقد منحتنا الجهة الرسمية وعدا كاذبا مجددا، لكنها هذه المرة حاولت تحطيم كرامتنا، لقد أرادت الصاق صفة : " وغد " بوالدكم و هو راقد في سلام منذ سنوات.