لن أشدد على الثقة أو المعرفة/الخلفية القويمة التي تخول لي الكتابة في موضوع الجرأة في تناول القضايا الإجتماعية على صفحات المنتديات و الملتقيات الفكرية، فالموضوعات التي يكرس المشتغلون بالتفكير مهما كانوا(مفكرين و مدونين و صحافيين...) اجتهاداتهم الفكرية لمناقشتها تبقى مسألة اختيارات شخصية ليس سليما أن تنفى عنها الموضوعية، إذ صار واضحا أن للقناعات الذاتية تأثير رئيس في نظرة القراء إلى الكتابات التي تتطرق إلى مفردة "الجرأة" في التفكير في المشكلات و الظواهر الإجتماعية بالعالم العربي، قد يحاول البعض ادخالها في مجال مفاهيمي أخلاقي تتعلق حدوده بالدين و التقاليد و مواصفات الإختلاف التي تميز المجتمعات العربية عن باقي مجتمعات العالم. و لا يخفى علينا أن تيار حقوق الإنسان و الديمقراطية المنادى به في الكون، أسرف في تمجيد مظاهر الإختلاف بين الشعوب و نادى بنهج التسامح لتجاوز كل أشكال التطرف و صراع الثقافات، و خصوصا، موضوع صراع الثقافات و المذاهب الفكرية الذي يشكل البعد الأيديولوجي لمصطلح:"الجرأة" التي تتباين معانيها باختلاف المنظور الفكري الذي يتناولها، فهي بالنسبة للعلماني غيرها في رؤية عالم الدين.
و إذا كان الإختلاف ظاهرة عقلانية و مندوبا إليها في المجتمعات الإنسانية المتسمة بتمايزها في مستويات متعددة، فإن إذابة مفردة "الجرأة" في نسق مفاهيمي يتأسس على المعطيات الدينية في المنطقة العربية ليس مقترحا رجيما يستدعي مواجهته بلغة الشجب فحسب، لا مجال للمفاضلة بين شخص يرتدي لباسا متصلا بعقيدته ، مثلا،و شخص آخر يرتدي صنفا مغايرا من الألبسة، فاللباس(و في العمق الشمولي:السلوك) خيار بشري يندرج ضمن الحرية الفردية المحمية بمشروع التكيف مع الإختلاف و القبول غير المشروط بكل تجلياته و تكويناته، و هو المشروع الذي تطور إلى إعلان عالمي و قوانين دولية لرعاية حقوق الإنسان. نفس الموقف يتبعه الفكر السياسي و القانوني و السوسيولوجي لدى رسمه لتموضعه بالنسبة لمختلف العلاقات و المزاولات الإجتماعية. لا يحق لأي إنسان أن ينجز مفاضلة من أي نوع كانت بين مظاهر التعامل و السلوك في مسائل العرف و التقليد و العقيدة (أي الثقافة) عند أغياره
من الضروري أن أعيد التأكيد على رأي لي في نظرية صراع الثقافات( التي ترتبط عضويا بموضوع:"الجرأة" في عرض المواضيع الإجتماعية التي تستمد أهميتها من اعتبارها العالمي شهادات من جانب المدونين و الكتاب عموما حول مواصفات البيئة الإجتماعية التي تحتضنهم) التي تصدت لها مقاربات كثيرة، البادي لي أن صراع الثقافات صيغة متطورة لتقابل المصالح الإستراتيجية للدول، إنه صورة بشرية قاتمة و سلبية تتمخض عن صراع سياسي صرف. في نموذجي العراق و لبنان، انبثق التهاب طوائفي و بينطائفي جسيم بين أفراد المجتمع العراقي و اللبناني، و هو ماتعتبره تحقيقات و متابعات عربية و غربية نوعا من صراع المذاهب و الإتجاهات العرقية و المذهبية العقائدية (باعتبار الدين جزءا من الثقافة المميزة لجماعة بشرية ما). بيد أن المراجعة التاريخية تفتح الفرصة أمام تفسير أكثر أقناعا : الإلتهاب الطائفي في نموذج العراق مشروح بالسياسة التي تدير البلد. و رغم الطبيعة الإنتهازية للطوائفية مهما كان مرتعها الجغرافي مثلما يقول التاريخ، حيث يتوقف على فترات زمنية متباعدة التبادل الدموي للسلطة و تجف الاحترابات العنيفة بين التيارات الفكرية و العقائدية فإن أغلب الصراعات الطائفية تتناهى إلى تكريس:"الكفاءة الوطنية" كمقياس وحيد للمفاضلة بين المواطنين بحثا عن أدنى مقادير الاستقرار و التعايش
لا فضل لإنسان على آخر إلا بمقدار الفائدة السوسيو-اقتصادية و العلمية التي يقدمها أو يجلبها للوطن، وهو نفس التعريف الممنوح أو الذي يجب أن نمنحه، في تقديري، للتقوى الدينية. القائلون بصراع الثقافات، في منطقتنا العربية، و الإستغراق في تفسيره بعوامل إجتماعية أنثروبولوجية و سايكولوجية بحتة، فإني لا أستطيع إلا أن أطلب منهم التنازل عن هذا الموقف المرفوض. العامل السياسي موجود و يشكل القوة الدافعة المركزية، و هذا العامل يخطىء بعض المحللين و الملاحظين و يربطونه بما يسمى :"المؤامرة". و لا شك أن الموجود الموضوعي العربي المختزل في المواطن العربي و اعتقاداته كفرد بين كتلة جماهيرية لا يقوم على الخداع و الشر في كل شيء، و لعل التاريخ يبين لنا أن المؤامرة السياسة بداية الطريق نحو اليقظة العلمية و الحضارية في العديد من الفترات التي عبرها الكيان العربي و الإسلامي
الجرأة بمعانيها المتدرجة، لا تتعرض للتقزيم إذا وجهت بمحددات دينية تحوم حول مفردات الحشمة و الحياء و الإمتثال للشرع في معاملة موضوع معالجة الحقوق الشخصية. ربط مثل هذه المسائل بالإرشادات الدينية متهم بالرجعية و الإرهاب ( حتى أسماء التهم صرنا نستوردها من الآخر)، حتى أن كتابات كثيرة، ذائعة على نطاق شاسع اليوم، تنزع صفة الرأي و الموقف من هذا التحليل، و تحكم عليه باللاعقلانية و الإساءة للمسيرة التقدمية التي قطعت فيها البلدان العربية أشواطا ثقيلة عقب الحصول على الانعتاق السياسي. ما لا يوجد له أي أساس موضوعي أن نقرأ عن مثقفين يعتبرون أن التكنولوجيا و اليقظة العلمية و العقلانية في مجتمعاتنا العربية تتنافى مع الإنعكاسات السلوكية للديانة الإسلامية. حالات المواطنين العرب تتسم في الكثير منها بالفتور على المستوى الديني التطبيقي ، إلا أن العربي الملتزم بالإسلام و غير الملتزم به سارا معا ينددان بتصريحات البابا، في مشهد متميز يظهر أن المجتمع العربي رغم علاقة بعض أفراده الفاترة بالدين يؤمن بأن محاولة ابتكار تناقض وهمي لاموضوعي بين الدين و التحول العلمي و السوسيو-اقتصادي بعالمنا العربي، مشروع سفسطائي و مسيس يتقنع بمنظومة مفاهيمية مشهورة تحوم حول مفهوم مفخخ هو : " الجرأة " و التي يرى جزء المفكرين الغربيين أنها محاصرة في العالم العربي بسبب الأغلال الدينية
.إن من يطعن في الجغرافيا التي رسمها الإسلام للجرأة في التطرق للشؤون الإجتماعية يجب أن يمتلكها ليقول للأنظمة السياسية التي حرمت المواطن من اللباس الذي اختاره نظرا لصلته بالمعتقد، يجب أن يقول و بكل الجرأة أن لا مبرر موضوعي لمنع ارتداء الأزياء الدينية في تونس و فرنسا و غيرهما، بل إنه جريمة بمقتضى القانون الدولي المرسخ للديمقراطية في كل مناحي الحركة الإنسانية، و كذلك الإنسان العربي في تقويمه للعلاقات الإجتماعية و قناعاته بصددها يبقى انسانا يمكن أن نستخرج منه الفعالية و الإنتاج مهما غرق في الأصفاد السلوكية و الفكرية المحرفة باسم الدين. لن أستطيع التستر على تجاوزات خطيرة من بينها أصناف الصراع الطائفي و البينطائفي في العراق و سواه من بلداننا العربية، غير أنها في الأصل تأويلات دينية خاطئة لعلماء تم نقلها بواسطة النظام السياسي إلى المجتمع.لقد أدانت الإنسانية جرائم أتباع المنهجية الشيوعية و لم تناهض الشيوعية من منطلق كونها فكرا و منظومة لتطور الفعالية الإنسانية، و بالمثل فإن المجتمع العربي، مدعو للتخلي عن بعض الممارساتت الدينية من منطلق أنها تاويلات غير منصفة لباحثين و علماء في الدين زكتها أنظمة سياسية صار بديهيا أنها بعيدة عن الديمقراطية و التقدمية التي يرسخها المعتقد الإسلامي.
إن من يقول إن الدين يستخدم السياسة يدلي بموقف يتناقض مع التاريخ و الحضارة، السياسة هي التي تستخدم الدين بل إنها تخترعه حينما لا يكون موجودا مثلما حصل في الحضارتين الفرعونية و البابلية.