اختار رصيف الانتظار بعد أن أنفق ساعات مرهقة قبل الحصول على تذكرة سفر إلى مكناس. الرطوبة و ارتفاع درجة الحرارة يضفيان قسوة رهيبة على جو العاصمة، الناس يلتجئون إلى المقاهي و المنتزهات حيث تخفف الظلال من شدة القيظ. ارتطمت هذه الأفكار المستمدة من أعماق المعتاد اليومي بذهنه و هو يتابع بتؤدة نشاط المسافرين، لكل واحد منهم وجهة محددة، لا يأتون إلى محطة القطار دون ادراك القصد من رحلة عبر آلات عتيقة. انتقادات الواقع لا تنتهي و لن تنتهي، بلا مشكلات متكدسة، فإن الواقع يفقد نكهته الخاصة، لا مناص من الاحتكاك بتحديات التعلق بالحياة.
المعلومات المسجلة بالتذكرة تشير إلى موعد انطلاق الرحلة، خمس ساعات صيفية أخرى للاستهلاك، و قد تنضاف إليها لحظات عسيرة، أصدقاؤه سردوا له الكثير عن مأساة مستخدمي القطارات، التنقلات البشرية المستمرة خلال العطلة تخنق النقل، في مثل هذه الأوقات العصيبة من السنة تخضع المواطنة لامتحانات عسيرة، بل إنها تتخلص من أدنى معانيها الآسرة، و على النقيض من الانطباع الشائع الذي ينشىء التناقض بين المثال و الواقع زمن الزخم المدني، فإن دائرة الأفكار المثالية تتسع، إذ يغدو الحصول على مقعد محترم داخل باص أو قطار متهالكين حلما بعيد المنال. بين اللحظة و اللحظة تتأجج حرب كلامية و أحيانا عنيفة بين المسافرين، هذا يزعم أن المقعد له و الآخر يؤكد أنه الأولى به…يتدخل ممثل الشرطة محاولا إصلاح الأخطاء المتكررة التي يرتكبها موظفو شبابيك بيع التذاكر، رغم الإملاءات الإدارية الواضحة بشأن تنظيم أرقام المقاعد تفاديا لصراعات زائدة، فلا يكاد ينتهي يوم واحد دون معاينة شجارات من نفس النوع. كان سليم يوزع نظراته الباهتة التي يتطاير منها سأم الإنتظار على مختلف المشاهد المؤذية التي تغص بها المحطة..فجأة جلس إلى جانبه رجل حفرت السنون أخاديد على وجهه ذي السحنة الكالحة، بادره بالقول بحنق :
- لا أفهم هذه الصراعات الهوجاء حول المقاعد، الأساسي في القضية بأكملها أن القطار اللعين سيتحرك، كلهم سيصلون إلى وجهاتهم سواء ركبوا في المقدمة أو في المؤخرة، خلال الصيف يتأهب أي قادم إلى المحطة لخوض غزوة أعصاب محرقة.
رمقه سليم ببعض النظرات الفاحصة و أجاب بلا اكتراث و هو يتابع بعينيه شابا يقتاده شرطيان إلى مكتب الأمن :
- نحن نعيش في غياهب مجتمع يفسر التسامح على أنه رضوخ لقوة الآخر أو خوف منه، إن تنازلت مثلا عن مقعدك، فحقارة الرجولة المنقوصة سترافقك إلى أن تصل و ستستمر في مطاردتك كلما استخدمت نفس المحطة.
استغرب الرجل من الجواب الشاحب الذي باغته به محدثه الذي يبدو أن غرابة الأطوار قد رسمت ارتساماتها الاعتيادية على وجهه المتفتح، تابع سليم حديثه الساخر من الواقع :
- يبدو أنك فلاح تعمل بضواحي مكناس، هل ستمنح بضعة أمتار من أرضك لجارك الذي يحتاجها لاستكمال بناء منزله؟ لا داعي لأن تجيب أخي، الرفض البات هو ما ستعرب عنه، و كلنا ننطلق من مبدأ الرجولة المنقوصة في كل سلوكاتنا.
تثاءب الفلاح قليلا، لمح الساعة الحائطية، و استطرد :
- ما نسعى إليه يختزل في الاستفادة من ادارات منظمة، القطار الآتي سيقلني، مضطر لانهاء هذا الحديث الشيق معك..فلتصحبك السلامة.
لم يجب سليم، لاحقت نظراته الفلاح المتعب و هو يهرول ناحية القطار للعثور على مقعد ضمن التشكيلة الأمامية الأكثر أمنا و راحة. اخترع الفلاح ازدحاما حارا قرب مدخل عربة المسافرين الأولى، بدأ اشتباكا بالأيدي مع أحد الوافدين…انفض النزاع باصطحاب بطليه إلى مكتب الأمن و انطلق القطار دونهما. ابتسم سليم، ثم ما لبث أن تفرغ لفحص هاتفه الخليوي، ركب رقما بانزعاج :
- سأتأخر قليلا عن موعد الوصول، جحيم صيف هذا العام يقضي فترة استجمامه في المحطة كالمعتاد.
- و لم لم تستقل سيارتك؟
- هل يتوجب علي يا زوجتي العزيزة أن أذكرك بما ينسيك اياه اغتسالك المستمر بمياه شلالات شكوكك؟ الطريق السريع بين الرباط و مكناس مقطوع لأشغال تطوير، لقد أعلنوا الخبر خلال النشرة الصباحية، بعد دقائق من الآن سيقدمون الأخبار مجددا، تابعي النشرة فالأكيد أن الخبر سيعاد. كنت أتوقع أن تغمريني بموجاتك الصوتية المثيرة فإذا بي أواجه بعبور الصراط الأخلاقي المضجر مجددا.
سمع وشوشة ضحكها، قبل أن تغلق الهاتف قالت :
- كانت سماء الإنتظار منذ الصباح ملبدة بغيوم الشكوك، لكن كلماتك تسمح للربيع بتحرير اطلالاته الانتهازية.
- عباراتك الرومانسية تتطلب استكشافا معقدا، سأعتبر هذا الكلام اطراء شخصيا. لقد التقطت قبلتك عزيزتي، تأكدي بأنني لا أريد لها أن تنتهي.
أقفلت الخط، الاذعان لدعوته اليومية إلى تجديد السفر عبر الجسد يتناهى لانتصاره، فهو لاعب محترف بالكلمات، و ينتقل بمزاجها من حالة إلى حالة، ينتشله من اللون الرمادي ليصبغه بالوردي…لا ركود للغة الجسد المغلفة بالكلمات المتلألئة أو ما يسميه اختصارا رحيق الأنوثة.
نفذت ساعات الانتظار تباعا، الملل يسرح و يمرح في خيالاته، قبيل وصول القطار أذاع أحد موظفي المحطة خبرا سارا، لقد قررت وزارة النقل تخصيص قطار اضافي للمواطنين الذاهبين إلى مكناس درءا لمشكلة الزحام حول المقاعد. وصل قطاره أخيرا، اختفى الزحام و توقفت حرب المقاعد إلى حين. بحث عن مقعد شاغر، و و جده بجانب سيدة توحي ملامحها بأنها تستحق ما يسميه الاحترام الكلاسيكي.
- هل هذا المقعد شاغر سيدتي؟
- أنا آنسة، أعتقد أنه شاغر، يمكن أن تسأل مراقب التذاكر.
- سأستعمله إلى أن يقرر المراقب أن شخصا ما قد حجزه قبلي.
ابتكر جلسة ما، و طفق يقرأ ما يصل إليه من الأخبار التي تضمنتها جريدة المرأة الجالسة إلى جواره. بحث بهدوء عن أي فرصة لاجتذاب محادثة استكشافية.
- مهرجان هذه السنة في العاصمة خيب آمال الجمهور المغربي.
- لقد وزعوا عليهم برنامج المهرجان مجانا، لم يجبرهم أحد على حضور فعالياته. يتراءى لي أنك تدرك أكثر مني أن الموسيقى تشبه الألوان في كل شيء، منها ما يناسبنا و منها ما يبعث على الانزعاج. نفس السيناريو المضجر كتبه الجمهور في مكناس خلال السنة المنصرمة، تذمروا من مهرجان فني أبدوا قبل انطلاقه اعجابهم بفقراته. الفن ينتهي إلى ماخور…شئنا أم أبينا.
- لا أستطيع ادانة أذواق الجماهير، أميل إلى الإعتقاد بأن أداء الفنانين المشاركين لم يكن مقنعا.
لم تجبه، و لم يبد هو أيضا أي اصرار لاستئناف الحوار، قرأت الجريدة لدقائق أخرى ثم طوتها و دفعت بها إليه…تابع باسهاب تداعيات الانشطار الذاتي المخيمة على المنظر السياسي الفلسطيني،قرأ و في عينيه بريق ساخر عن اللقاء المفاجىء بين الرئيس السوري و نوري المالكي و ابرامهما اتفاقات شراكة في قطاعات الأمن و الاقتصاد، استوقفته مقالات متفرقة للجمهور الفني تتناول مجددا رحيل رائد البوب مايكل جاكسون، استفزه تعليق لأحد المتابعين :
- لم أشاهد جاكسون يغني قط، غير أن حجم الحزن الذي خلفه رحيله يثبت أنه فنان استثنائي.
كي تكون استثنائيا في هذا العالم في نظر بعضهم، يجب أن يكون عدد المتأثرين بموتك ضخما. و لم لا؟ هذه وجهة نظر. لم يشعر بمرور الوقت، و أيقظه من غيبوبته القرائية توقف القطار في محطة مكناس، قبل بدء نزول الراكبين قالت السيدة الجالسة إلى جانبه بنبرة جادة :
- هذه أول زيارة لك إلى مكناس؟
- نعم..تقريبا..لم أزرها منذ ثلاث سنوات.
- أشتغل محامية هنا..إليك عنواني.
مع نزول المسافرين، حاول سليم تتبع المرأة، بيد أنها ضاعت وسط الوجوه و تقاطر الأشخاص على المحطة. سأل المارة عن العنوان، و كلما سأل عنه أحدهم أشاح عنه بوجهه و رمقه بنظرات تذكره بمبدأ الرجولة المنقوصة الذي تحدث عنه برفقة الفلاح على دكة الانتظار في الرباط. استوقف شرطي مرور و استفهمه عن العنوان، تفحص الشرطي العنوان ثم ما لبث أن ضحك :
- ضحية أخرى، تلك السيدة محترفة حقا. نحن نلاحق هذه السيدة منذ أسبوعين، تنتحل صفات متعددة : طبيبة، محامية…لقنص بعض الطرائد من أجل ماخور تديره يشير إليه العنوان الذي معك سيدي. و قد ثبت أنها تفضل اقتناص المتزوجين لافتعال بعض المهاترات الرخيصة.
- أشكرك سيدي.
واصل سليم مشواره إلى بيت جده حيث ترقب زوجته عودته، سيطرت عليه أفكار حالكة، السيدة لم تسأل حول ما إذا كان متزوجا أم لا؟ ما الذي يعنيه أن لا…رفض مواصلة الحفر في أغوار التساؤلات التائهة، ردد جملة واحدة قالتها المحامية المزيفة :
- الفن ينتهي إلى ماخور..شئنا أم أبينا.