تشوب الكثير من المفارقات الجلية التحليل السياسي ( و التاريخي ) الذي يقول بخمود الحرب الباردة و ظهور عصر التكتلات الاقليمية. سباق التسلح و تبادل المماحكات السياسية عبر مناطق متفرقة خاصيتان مرافقتان لأي صراع أو خلاف في الرأي بين كيانين أو مجموعة كيانات جيوسياسية كي يأخذ صفة : الصراع البارد ضمن مدلولها التاريخي. هذا التعريف المكثف لا يعني أن الصراع البارد يتعارض مع الاحتكاك المسلح، بل إن الحل العسكري ينتمي لمفهوم الصراع ( الحرب) البارد عندما يستجيب لشرطين أساسيين :
** الهدف منه هو استعراض الاستطاعات العسكرية.
** أن يكون صراعا منقولا لإحدى ساحات صراع النفوذ و اصطدام المصالح.
السبب الرئيسي في اندلاع الحروب الباردة هو الافتقار لمعلومات دقيقة عن القدرات العسكرية لدى الخصم المحتمل، إذ أن الجهاز العسكري من الصعب إذا لم يكن مستحيلا أن تخترقه الأذرع الاستخبارية لدول خارجية ترتقب منها عمليات عدائية.
تجلت هذه الملاحظات في قضية نشر دروع صاروخية متعاكسة بين روسيا و الولايات المتحدة، فبعد اجماع الغرب على انتزاع استقلال اقليم كوسوفو من صربيا الممالئة لروسيا و هو الاجراء المباغت الذي ألحق ضررا بالغا بالسمعة الدولية لروسيا بادرت على إثره إلى انتزاع استقلال أبخازيا و أوسيتيا من جورجيا الموالية لحلف الناتو. أدركت القوى الأورو-أمريكية بعد هذا التصرف أن مسألة استدماج روسيا داخل حلف الناتو تعرضت لنكسة غائرة، لتنضاف هذه الخطوة الخاطئة إلى مسار الخطوات الخاطئة التي تزعمتها الادارة الأمريكية السابقة و التي أعلنت مشروع مكافحة الارهاب و دشنته بغزو العراق و أفغانستان دون ايلاء أي اهتمام للرؤية الصينية و الروسية التي تبنت النهج التوريطي كردة فعل على مشروع مكافحة الارهاب الذي لم تشارك في رسم ملامحه الرئيسية. فبينما تبذل واشنطن كل جهودها لزرع ولاء سياسي تمهيدا للاستغلال الاقتصادي لها في العديد من المناطق الملتهبة ( السودان، الصومال، العراق…الخ) يستخدم التوافق الكونفوشيوسي / الروسي الأسلوب الاقتصادي إذ أن كلا من الصين و روسيا وقعت سلسلة اتفاقات في قطاعات الفلاحة و الطاقة مع نفس الدول التي تحاول الولايات المتحدة اجبارها على القبول بالتبعية السياسية.
لقد اعتقد المحافظون الجدد أن شراء الحياد السياسي الكونفوشيوسي / الروسي بواسطة الاقتصاد سيعجل بانخراطه في الفعل العسكري داخل العراق و أفغانستان تحديدا، غير أن سقف النتائج بدا مخيبا لتطلعات الناتو، فروسيا وافقت على تخصيص أراضيها لتمرير مساندات انسانية فقط لحلف الناتو الغارق في ورطة أفغانستان أما الصين فقد خفضت من حجم المساندة الأورو-أمريكية للتيبت و تايوان، و يظهر هذا جليا في التغير السريع للموقف الفرنسي من قضية التبت و حرمان التايوانيين الدالاي لاما من الإدلاء بأي أفكار سياسية ضمن زيارته التي قام بها مؤخرا للمنطقة.
أ لا يجدر بنا أن نتساءل عند هذا المستوى من التحليل : ما هي المكاسب التي حققتها الإدارة الأمريكية؟
تظهر في مقدمة المكاسب عملية بناء التوازن بين الشيعة و السنة و نقل الصراعات الدموية إلى الداخل الاسلامي ضمن خطة اختطاف الاسلام التي أعقبت هجمات شتنبر 2003. في هذه الجزئية استشرى اعتقاد لدى عينة واسعة من الباحثين و الملاحظين مفاده أن الغرب استبدل العداء الأحمر بالعداء الاسلامي، هذا الفريق من الباحثين يقع في تناقض وخيم حين يدافع بشراسة عن مصداقية نظرية صراع الحضارات من جهة و يقول بانتهاء العداء الشيوعي / الرأسمالي من جهة أخرى. تشكل أضلاع نظرية صراع الحضارات لا يتحقق بطريقة عبثية أو تطورية ( كما هو الشأن في الثورات أو الفورات الاجتماعية بتعبير أكثر دقة). لقد بات جليا أن الإدارة الأمريكية السابقة أعادت المشهد السياسي الدولي فترات طويلة إلى الوراء و خصوصا إلى فترة الصراع بين الشرق و الغرب و ظهور نقاط ممارسة الضغط في أمريكا اللاتينية و في كوريا الشمالية و بناء تحالفات اقليمية تخضع للتسيير ثنائي القطبية ( مشروع التعاون الاستراتيجي التركي السوري الايراني و لو أن هدف تركيا من هذا المشروع هو انتشال سوريا من التبعية التامة لايران و محاولة اعادتها إلى المحيط العربي الرسمي استنادا إلى علاقات أنقرة الوثيقة مع أمريكا و اسرائيل و دول مجلس التعاون الخليجي و مصر…الخ) تماما مثلما كان عليه الوضع الدولي في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
الرئيس الأمريكي الجديد استوعب جيدا جسامة الارث الذي خلفه له سلفه، فبادر إلى اطلاق اصلاحات مالية تمزج بين النظرتين الشيوعية و الاسلامية، كما ألغى خطة نشر الدرع الصاروخي في الأراضي المتاخمة لروسيا و التي تشكل عمق نفوذها الاستراتيجي و أعلن إعلاميا أن الباب مفتوح لالتحاق روسيا بحلف الناتو كمحاولة لاقصاء الصين تجلت أبسط مظاهرها في الرسوم الجمركية الاستثنائية التي فرضت على دخول البضائع الصينية إلى الولايات المتحدة.
لقد أنجبت الفكرية السياسية الأمريكية نظرية الفوضى الخلاقة و كانت أول و أبرز مساهم في تطبيقها…فهل من المنطقي أن نتوقع العكس بخصوص نظرية صراع الحضارات؟؟؟